الجرّافة المدرّعة
لقد عمّت الفوضى.. واستولت عصابات داعش على ثلث مساحة العراق؛ فبادرت اغلب المناطق السنّية في غرب البلاد إلى مبايعة داعش نصرةً لدولة الخلافة المزعومة.
أمّا المناطق الشيعيّة هناك فقد تهيأت لصدّ اي هجوم محتمل بعد ما اباح الدواعش دم ابناء المذهب الشيعي، وقامت بعض المناطق بعقد اتفاقات مع ابناء المناطق السنّية المتواجدة هناك بعدم تعرض أحدهم للآخر اسوة باتفاق الدواعش مع المسيحيين، وقد سميت بـ(الاتفاقيات السلميّة)، لكنّ الدواعش ليس لهم عهد ولا ميثاق فما أن احكموا سيطرتهم حتى نكثوا العهود وغدروا بالشيعة والمسيح والأيزيديين، فقاموا باحتلال تلك المناطق وقتلوا الرجال وسبوا النساء والاطفال ونهبوا الاموال!
كانت قرية (آل بو فدعوس) ذات الطابع الشيعي قد عقدت اتفاقاً سلميّاً مع ناحية يثرب ذات الطابع السنّي المحاذية لها والتابعة إلى قضاء بلد في صلاح الدين واستمرّ هذا الاتفاق لعدّت اسابيع معدودات.
بعد صدور الفتوى المباركة من المرجعية العليا للدفاع عن الوطن والمقدسات لم ينخرط ابناء قرية (آل بو فدعوس) بالحشد الشعبي احتراماً للاتفاق.
أمّا اهالي يثرب وبعد أن بايعوا داعش وخضعوا كليّاً لسيطرته نكثوا العهود مع قرية (آل بو فدعوس)؛ ففي أحد الأيام بعد ما أمن رجال القرية من كيد عدوّهم وانطلقوا منذُ بداية الصباح إلى مزاولة اعمالهم ولم يبقَ إلّا عددٌ قليل من الرجال مع النساء والاطفال هجم الدواعش من ناحية يثرب بعد ساعات الصباح الاولى على (آل فدعوس) بأعدادٍ كبيرةٍ وآلياتٍ مصفّحةٍ وتمكّنوا من احتلالها بعد مقاومة بسيطة، ولم تكن المعركة متكافئة من ناحية العدّة والعدد.
ثم إنّ الدواعش قاموا بقتل جميع الرجال المتواجدين هناك وحجزوا النساء والاطفال في نفس القرية في بيوت حصّنوها بالحراسة المشددة، ليقوموا بنقلهم إلى أماكن السبي فيما بعد.
في أثناء ذلك قامت بعض النساء بالاتصال بأزواجهن وآبائهن واخوانهن الذين خرجوا إلى مزاولة اعمالهم لتطلعهم بما يجري في قريتهم؛ فقام الداعشي الذي يحتجزهن بمصادرة الهواتف النقالة منهن وضرب بالسوط كلّ من اتصلت بوليّها.
عندما علم الرجال بغدر الدواعش وجّهوا نداءات استغاثة إلى الجيش والحشد الشعبي.
كانت أقرب ثكنة للحشد الشعبي في قاعدة البكر الجوّية قضاء بلد جنوب تكريت، وعندما سمعوا بوقوع النساء بأيدي الدواعش قاموا بوضع خطّة سريعة للاقتحام قبل أن يفعل الدواعش بهن كما فعلوا بالأيزيديات، ولكن هناك مشكلة في التسليح إذ إن الحشد الشعبي في بداية تكوينه لم يكن يمتلك الاسلحة المتطوّرة والسيارات المصفّحة بل كان يعتمد على المدّ البشري والاسلحة الخفيفة والمتوسطة.
وعلى الرغم من امكانياتهم المتواضعة في التسليح هبّت فصائل الحشد الشعبي بأعداد كبيرة للمشاركة في الواجب وعندما سمعت بعض مناطق محافظة ديالى المحاذية لصلاح الدين اتصلوا بالحشد وقالوا سنلتحق بكم لإنقاذ النساء فخرج ابناء منطقة زنبور مع مجاميع كبيرة من قضاء الخالص بأسلحتهم الشخصيّة بما يسمى عندهم بـ(الفزعة العشائريّة) وعبروا نهر دجلة والتحقوا بالحشد الشعبي، وفي أثناء الطريق انضمّ اليهم رجال المناطق الشيعية القريبة من قرية (آل بو فدعوس) وهم رجال مناطق الحاتمية وآل بو حسان وخمس طوير؛ فأصبح الهجوم بأعداد غفيرة ويعتمد على المدّ البشري.
عند وصولهم كانت هناك منطقة بساتين مفتوحة تفصل بينهم وبين قرية (آل بو فدعوس) والعدو يتحصّن هناك وقد بادرهم بالقصف بصواريخ القذائف فلم تتمكن سيارات الحشد الشعبي وابناء المناطق المنضوية معهم من المرور لأنّها غير مصفّحة، فترجّل الابطال عن السيارات وهم يحملون اسلحتهم الخفيفة والمتوسّطة وقاتلوا مشاة.
حصل الاشتباك وكانت المعركة شرسة جداً وكانت قذائف الحشد الشعبي تدك اوكار العدو والرصاص ينطلق بكثافة من الأعداد الغفيرة المهاجمة ويرسل الأعداء إلى الجحيم، فوجئ الدواعش بالزخم البشري الكبير وتزعزعت اركانهم، وقد استطاع رجال الحشد الشعبي احداث أكثر من ثغرة في صفوف العدو وتمكّنوا من الوصول إلى أماكن حجز النساء والاطفال وفكّ اسرهم؛ فكانت هناك مجموعة من الحشد الشعبي تقوم بإخلاء النساء الاطفال من القرية ونقلهم إلى قريتي خمس طوير وآل بو حسّان مع استمرار بقيّة الابطال بالقتال.
لم يتمكّن الدواعش من الصمود أكثر فحاولوا الانسحاب إلى ناحية يثرب ورصاص الحشد يلاحقهم ويفتك بالمنهزمين، وقد بقيت ستون جثّة للدواعش في أرض المعركة لم يتمكّنوا من اخلائها بسبب كثافة الرصاص وانهزامهم المذلّ من المكان.
بعدها اعلنت فصائل الحشد الشعبي الانتصار وقاموا بإخلاء الجرحى إلى مستشفى بلد ونقل الاجساد الطاهرة لشهدائهم إلى مطار المثنى في بغداد ومن ثم ينقلون إلى أهلهم.
استقرّت اعداد من فصائل الحشد الشعبي في قرية آل بو فدعوس وكان بينهم وبين ناحية الطائف نهرٌ جافٌ خالٍ من الماء أشبه بالخندق الذي يحيط بالقرية، وكان في الجانب الاخر من النهر بيوت وبساتين يتمركز فيها العدو واحد البيوت لا يبعد سوى ثلاثين متراً يتمركز به قنّاص يفتك برجال الحشد الشعبي وكاد يشلّ حركة المقاتلين.
كان لابدّ من هدم المنزل فلا توجد وسيلة اخرى للخلاص منه غير الهدم، ولكن كيف السبيل الى ذلك؟
قدم أحد فصائل الحشد الشعبي طلباً للعتبة الحسينية في كربلاء المقدسة بتزويدهم بجرّافة مصفّحة بأقصى سرعة ممكنة؛ فأرسلت العتبة لهم جرّافة مدرّعة إذ كانت قمرة القيادة مدرّعة فيها فقط.
كانت المهمّة خطرة جداً ونسبة النجاح فيها ليست كبيرة، ولكن لا يوجد حلّ آخر فلا بدّ من التضحية لتجنّب وقوع مزيد من الشهداء.
حدد الحشد الشعبي موعداً لهدم المنزل وتطوّع أحد المقاتلين للقيام بالمهمّة وكان مقاتلا شجاعاً له خبرة في قيادة الآليات الثقيلة يكنّي بـ (بأبي علي) ؛ فقام وودّع اخوته المقاتلين واوصى وصيّته، وانطلق بالجرافة وكان عليه ان يعبر النهر عن طريق جسر بعيد نسبيّاّ عن ذلك البيت المشؤوم حتى يصل إليه.
ما أن خرجت الجرّافة وانكشفت للعدو حتى توال الرصاص عليها كزخّات المطر فصار (أبو علي) لا يسمع صوت الآليّة من شدّة الرصاص على قمرة القيادة ولم يعبأ به لأنّها مدرّعة، لكنّه كان يخشى من الصواريخ المضادة للدروع، وكان يشاهد بعض الصواريخ تمرّ من جانب الجرّافة وهي تسير، لكنّها لم تصبه امّا لحسن حظّه أو أنّها لم تكن مضادة للدروع.
قبل أن يصل إلى هدفه شاهد شخصاً ينتظره قرب البيت فظنّه داعشياً ولم يبالي به وتقدّم نحوه وما أن اقترب منه حتى تبيّن انّه أحد رفاقه من الحشد الشعبي قد تسلل الى المكان لحمايته، لكنّ ذلك المقاتل لا يمتلك جهازاً لاسلكيّاً فلم يتواصل مع السائق.
بعد أن تأكد أبو علي من هويته نادى عبر جهازه اللاسلكي على اخوته بالحشد الشعبي قائلاً: لا تطلقوا النار على الرجل الذي إلى جانب البيت إنه (الحاج يوسف).
اشار ابو علي الى الحاج يوسف بيده طالباً منه الرجوع إلى مقرّ الحشد الشعبي لكنّه أبى ذلك، وتسلّل خلف البيت في البستان يقاوم العدو بسلاحه الـ (BKC)، وكان يرشق العدو رشقات متقطّعة من أكثر من مكان حتى ظن العدو انّ هناك قوة مساندة متقدّمة لحماية الآلية؛ فتقهقر إلى الوراء مسافة بحيث لم يتمكنوا من اصابة الآلية بصاروخ قاذفة.
بدء أبو علي بتنفيذ عملية الهدم على أنغام رصاص الحاج يوسف وايقاع رصاص العدو على قمرة القيادة، وتم انجاز المهمّة ولم يبق سوى حجرة صغيرة منفردة في طرف المنزل كانت امّا حماماً خارجيّاً أو بيتاّ صغيراً للحيوانات؛ فتوجّه أبو علي نحوها ولكن هيهات.. هيهات من الوصول إليها؛ فالآلية الان لا تتحرّك!
بعد أن دقق أبو علي بالنظر من الفتحة الصغيرة المدرّعة بالزجاج المضاد للرصاص المتهشّم بطلقات العدو وجد أن أحدى سرفتي الجرافة قد انقطعت، وفي تلك الاثناء كان الرصاص يتساقط على قمرة القيادة كالبرد على الصفيح، ولأنّه خبير في قيادة الآليات الثقيلة اخذ يسيّر الجرافة بالذراع والسرفة الاخرى فمشى على تلك الحالة سبعة أمتار لكن محرّك الجرافة اخذ يهفت كلّما انزل الذراع، وما أن يرفع الذراع تعود الجرافة للعمل.
لن تفلح محاولاته في الوصول إلى تلك الحجرة الصغيرة، ولابدّ عليه الآن مغادرة الجرّافة، فنادى اصحابه عبر اللاسلكي واعطاهم الموقف، وطلب منهم أن يكثفوا إطلاق النار على العدو ليغطّوا له عملية خروجه من الجرّافة.
كان المدخل الوحيد للجرّافة المدرّعة من سقف قمرة القيادة، لكن بمجرّد صعوده على اعلى الجرّافة سيظهر بشكل كامل أمام العدو؛ ففكّر بخطّة يتمكن من خلالها الخروج دون أن يشاهده العدو.
حمل التراب بالمجرفة (الكيلة) واخذ يدور حول نفسه في المكان ما اثار غباراً كثيفاً تنعدم الرؤية من خلاله وتشهّد الشهادتين وأطفأ الجرافة وخرج وقفز من فوقها.
كان ارتفاع الجرّافة مع صعودها على ركام النزل يقارب الثلاثة أمتار، وعندما قفز أبو علي من فوقها انجرحت قدمه بركام المنزل (الكون كريت) لكنّها لم تنكسر؛ فنهض مع ما به من ألم الجرح وهرول نحو الحاج يوسف ووجده متحصناً بجذع أحدى الاشجار الكبيرة واخذا يقاومان العدو، والعدو يطلق النار بكثافة وبشكل عشوائي على البستان لأنّه لم يحدد مكانهما.
بعد اشتباك دام لأكثر من نصف ساعة صار هناك هدوء نسبي استطاعا خلاله الزحف والرجوع إلى القرية سالمين، وكان في رجوعهما فرحة كبيرة في معسكر الحشد الشعبي.
بعد ذلك اخذ رجال الحشد الشعبي يفكّرون بخطّة لاستعادة الجرّافة، فإمكانياتهم في التسليح والآليات بسيطة في بداية الامر وهذه الآلية تعد ثروة لابدّ من استعادتها؛ فتسللوا اليها أكثر من مرّة ولكن لم تفلح محاولاتهم لأنّهم لم يستطيعوا تحريكها من مكانها.
في المرّة الاخيرة استعانوا بمجموعة من الميكانيكيين فضلا عن مجموعة راجلة من المقاتلين لتأمين المهمّة، وكان خروجهم في جوف الليل، وكانت تلك الليلة ممطرة، وما أنّ وصلوا إلى النهر انزلقت رجل أحد المقاتلين وتدحرج داخل الخندق، وبعد أن اطمأنّوا على سلامته طلبوا منه الرجوع لكنّه ابى ذلك، ونتيجةً لذلك تأخروا قليلاً عن المهمّة، وقد اشتدّ المطر واخذ ينزل بغزارة حتّى صارت الارض موحلة، وما أن عبروا الخندق متقدّمين نحو الجرّافة سمعوا انفجاراً مدوّياً فانبطحوا على الارض وقد اتسخت ثيابهم بالطين. بعد ذلك علموا بأنّ الانفجار كان في تلك الحجرة الصغيرة القريبة من الجرّافة، فلقد كانت هناك عبوة ناسفة مزروعة داخل الحجرة وبسبب غزارة الامطار سالت المياه إلى داخل الحجرة ونتيجةً لذلك انفجرت.لقد كان تعطّل الجرافة سبباً لنجاة أبو علي من الموت المحتوم.