100%

 وقال (عليه السلام) وقد سمع رجلاً يذم الدنيا: أَيُّهَا الذَّامُّ للدُّنْيَا، الْـمُغْتَـرُّ بِغُرُورِهَا، الْـمَخْدُوعُ بِأَبَاطِيلِهَا؛ أَتَغْتَـرُّ بِالدُّنْيَا ثُمَّ تَذُمُّهَا! أَأَنْتَ الْـمُتَجَرِّمُ([1]عَلَيْهَا، أَمْ هِيَ الْـمُتَجَرِّمَةُ عَلَيْكَ!

مَتَى اسْتَهْوَتْكَ([2]) ، أَمْ مَتى غَرَّتْكَ! أَبِمَصَارِعِ آبَائِكَ مِنَ الْبِلَى([3])، أَمْ بِمَضَاجِعِ أُمَّهَاتِكَ تَحْتَ الثَّرَى! كَمْ عَلَّلْتَ([4]) بِكَفَّيْكَ، وَكَـمْ مَرَّضْتَ بِيَدَيْكَ تَبْغِـي لَـهُمُ الشِّفَـاءَ، وَتَسْتَوْصِفُ([5]) لَـهُمُ الأطِبَّاءَ [غَدَاةَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ دَوَاؤُكَ ، وَلا يُجْدِي عَلَيْهِمْ بُكَاؤُكَ]، لَمْ يَنْفَعْ أَحَدَهُمْ إِشْفَاقُكَ([6])، وَلَمْ تُسْعَفْ فِيهِ بِطِلبَتِكَ، وَلَمْ تَدْفَعْ عَنْهُ بِقُوَّتِكَ! قَدْ مَثَّلَتْ لَكَ بِهِ الدُّنْيَا نَفْسَكَ، وَبِمَصْرَعِهِ مَصْرَعَكَ. إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ صِدْقٍ لِـمَنْ صَدَقَهَا، وَدَارُ عَافِيَةٍ لِـمَنْ فَهِمَ عَنْهَا، وَدَارُ غِنىً لِـمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا، وَدَارُ مَوْعِظَةٍ لِـمَنِ اتَّعَظَ بِهَا، مَسْجِدُ أَحِبَّاءِ اللهِ، وَمُصَلَّى مَلاَئِكَةِ اللهِ، وَمَهْبِطُ وَحْيِ اللهِ، وَمَتْجَرُ أَوْلِيَاءِ اللهِ، اكْتَسَبُوا فِيهَا الرَّحْمَةَ، وَرَبِحُوا فِيهَا الْـجَنَّةَ.

فَمَنْ ذَا يَذُمُّهَا وَقَدْ آذَنَتْ([7]) بِبَيْنِهَا، وَنَادَتْ بِفِراقِهَا وَنَعَتْ نَفْسَهَا وَأَهْلَهَا، فَمَثَّلَتْ لَـهُمْ بِبَلاَئِهَا الْبَلاَءَ، وَشَوَّقَتْهُمْ بِسُرُورِهَا إِلَى السُّرُورِ! رَاحَتْ بِعَافِيَةٍ، وَابْتَكَرَتْ([8]) بِفَجِيعَةٍ، تَرْغِيباً وَتَرْهِيباً، وَتَخْوِيفاً وَتَحْذِيراً، فَذَمَّهَا رِجَالٌ غَدَاةَ النَّدَامَةِ، وَحَمِدَهَا آخَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ذَكَّرَتْهُمُ الدُّنْيَا فَذَكَرُوا، وَحَدَّثَتْهُمْ فَصَدَّقُوا، وَوَعَظَتْهُمْ فَاتَّعَظُوا([9]).
 

[1] ـ المتجرّم: ادعى عليه الجرم .

[2] ـ استهواه: ذهب بعقله وأذلّه فحيّره .

[3] ـ البِلى: الفناء بالتحلّل .

[4] ـ علّل المريض: خدمه في علّته ومرضه .

[5] ـ تستوصف: طلبت الصفة أي الدواء .

[6] ـ اشفاقك: شفقتك .

[7] ـ آذنت: أعلمت أهلها .

[8] ـ ابتكرت: من البكورة أي غدت .

[9] ـ روي بإسناد وغير إسناد وباختلاف عند الاسكافي (ت 220) في المعيار والموازنة: 268، والحسين بن سعيد الكوفي (ق 3) في كتاب الزهد: 47، واليعقوبي (ت 284) في تاريخه 2: 208، والقاضي النعمان (ت 363) في شرح الأخبار 2: 224، وابن شعبة (ق 4) في تحف العقول: 188، والشيخ المفيد (ت413) في الإرشاد 1: 296، والشيخ الطوسي (ت 460) في الأمالي: 594 ح 5، والخطيب البغدادي (ت463) في تاريخ بغداد 7: 297 ح 3789 .