ملحمةُ الخلود
كنا إلى جانب تشكيلات الفرقة العاشرة من الجيش العراقي، نحن المنتسبين إلى لجنة (الإرشاد) التابعة للعتبة العلوية المقدسة، حين تمَّ استلام الأوامر بالانطلاق إلى منطقة ناحية الصقلاوية، كي نبدأ الهجوم على إحدى مناطقها التي كان يتمركز بها العدو، كانت المنطقة تدعى (ألبو شجل)، وهي منطقة زراعية وعرة، كان ذلك بتاريخ 24/3/2016م.
بدأ الهجوم من جانب الطريق السريع المواجه للمنطقة، استخدم فيه كلُّ أنواع الأسلحة، لقد كان هجوما كاسحا ومباغتا، وهو ما اضطر العدو للانسحاب والهروب نتيجة الهزيمة التي مني بها أفراده، لم تتوقف القوات عند هذا الحدِّ، بل واصلت تقدمها إلى داخل المنطقة المذكورة، حيث العمق إلى ثلاثة كيلومترات، وتوقفت مقابلة البساتين المكتظة في تلك المنطقة.
وبعد أن انتهت المرحلة الأولى من الهجوم بتلك السيطرة كان هناك الشيخ (لقمان البدران) الذي كان مرافقا لتلك القوة التي خاضت المعركة قبل قليل، لقد أخبر الشيخ (لقمان البدران) ضبَّاط الفرقة العسكرية بانتهاء مهمته، وإن عليه العودة إلى النجف، لكنهم طلبوا منه البقاء إلى أن يتمَّ الهجوم نهائيا في يوم غد، وقد التمسوا فيه الشجاعة والقوة المعنوية التي كان يشجع بها المقاتلين وهو ما يزيد من زخم المعركة، حينها أدرك الشيخ غاية هؤلاء الضباط في بقائه مع الجنود، و وافقهم على البقاء، فاتصل بالشيخ (عادل السوداني) طالبا منه تمديد فترة واجبه في قاطع الصقلاوية.
في اليوم التالي توجهت القوات العسكرية المشتركة نحو البســـــاتين لتطهيرهــــا تماما من تجمعات العدو المحتملة، لكـــــن وعورة الأرض حالت دون تقدُّم الآليات، فاتخذ الأمر على أن تتقدم القطعات راجلـــــة كـــــل بمجموعتــه، كانت القوة المهاجمة تتألف من أربعين جنديـــــا وضابط وكلهم من الفرقة العاشرة، كان إلى جانبهم الشيخ (لقمان البدران) يصاحبه السائق حسين علي مجلي، وما أن توغلت القوة قليلا في تلك البساتين حتى تعالت أصوات الرصاص، من الجانبين، إذ بدأ الاشتباك الحقيقي بينهما، كانت المسافة بين القوتين قليلة بحيث يصعب معها تمييز مصدر النيران، حينها كان الشيخ يلهب نفوس المقاتلين بتشجيعه المتواصل لهم، إذ كان يدعو دائما ويقول: (اللهم ارزقنا إحدى الحسنيين، النصر أو الشهادة)، تقدمت القوة المهاجمة سريعا، توغلا عميقا نحو أوكار العدو، فما لبثت أن أزاحتهم عن مواقعهم، بعدها تمت عملية المطاردة إلى أبعد نقاط البساتين وأكثرها عمقا، وبينما عملية المطاردة قائمة وإذا برصاصة تخترق جسد الشيخ (لقمان البدران) فيقع معها إلى الأرض، ظل الشيخ في هذه الحالة إلى أن تقدّم نحوه أحد الجنود وكان اسمه (محمد) حاول أن يصل إليه كي يسحبه إلى مكان آمن بعيدا عن النيران كي يتم نقله وإسعافه، وبينما انحنى محمد ليحمل جسد الشيخ وإذا برصاصة تخترق رأسه فترديه في الحال ليقع شهيدا بالقرب من الشيخ، كان هذا المشهد على مرأى من السائق (حسين علي مجلي) الذي كان يرافق الشيخ، فقرر أن يذهب لإنقاذ الشيخ، وبعد أن تقدَّم وأصبح على مقربة منه، فإذا برصاصة ثانية تصيبه برأسه، ليقع إلى جانب أخويه، كان هناك قناصا يوجهه طلقاته لكل من يقترب من جثة الشيخ، الآن أصبح الموقف أكثر تأزما، كنا بجثة واحدة والآن ثلاث جثث هي بمرمى أعيننا لكننا لا نستطيع الوصول إليها، ما العمل..؟ لا يمكننا ترك الجثث في هذه الأرض، لا يمكننا أن نعود من دونهم، كان بينهم مقاتل اسمه (أحمد)، وهو كما عرفته رياضي نشيط جدا، تبرع بأن يلحق الشيخ لقمان ويسعفه لأنه كان بأنفاسه الأخيرة، ركض (أحمد) مهرولا نحو الشيخ الذي بدت عليه علامات على أنه لا زال على قيد الحياة ولكنه ينزف، وبعد أن راوغ كثيرا بحركات يتقنها وهو يركض، تمكن من الوصول إلى حيث وقع الشيخ، حمله على كتفه، لكن رصاصة أصابته في قدمه، تماسك كثيرا وهو يعرج من قدمه، ولكنه تمكن أخيرا من إخلاء الشيخ من ساحة المعركة، حينها نقل الشيخ (لقمان البدران) على الفور إلى المشفى كي يتمَّ إسعافه.
تواصلـــــت المعركـــــة، ازدادت معها كثـــــافة النار التي توجهت نحو قواتنا العسكرية، لقـــــد التف علينا العدو من جهات ثلاثة، إضافة إلى وجود القناصة في كلِّ مكان من تلك الأحراش، لقد تمَّ محاصـــــرة القوة المهــاجمة، وكي يجـــــدوا منفـــــذا لهم للخـــروج من هذه الأزمـــــة كان لزامـــــا على الجنـــود أن يزحفوا مسافة كبيرة كي يقتربوا من الساتر الذي لا يزال يبعد قرابة (300) متر عنهم.
مع إتمام التأمين على القوة المهاجمة، والتأكد من وجودها على الساتر بعدما تمَّ كسر الطوق الذي فرض عليها، فقمنا بنقل الشيخ (لقمان البدران) مع المقاتل المصاب (أحمد) إلى المستشفى الميداني الواقع في منطقة سبع البور، ومنها انتقلنا معه إلى مستشفى الكاظمية، ولكن الطبيب المعالج هناك أخبرنا بشيء لا يطمئن: فحالة الشيخ ميؤوس منها؛ لأنه فقد دماء كثيرة نتيجة النزيف، وإن جزءا كبيرا من رئته قد تضرر نتيجة الإصابة، لكن مع هذا لا بد من إجراء عملية مستعجلة له.
قبَّلت الشيخ، انطلقت راجعا إلى أرض المعركة، من هناك اتصلـــــت بالشيـــــخ (أحمـــــد أبـــــو الخيـــر) وأبلغتـــه بأمرٍ مهم مفاده إن جثة الســـــائق (حسين علي مجلـــي) بقيــت في الأرض الحـــــرام، لا بـــــدّ من انتشالها من هناك مهما كلف الأمر.
أتذكـــر (حسين) جيدا، هو سائق في لجنة الإرشاد والتعبئة، تطوع منذ بداية أيام انطلاق الفتوى، كان رجلا شجاعا، يسكن في ناحية الكفل في بيت بسيط جدا على أرض زراعية، كنت أراه مثالا بكلِّ شيء، فقد كان يصرُّ على المشاركة في الدفاع المقدس رغـــــم مـــــا يعـــــانيه من ضنك في المعيشـــــة، وقــد شارك في مختلف مناطق الاشتباك مع العـــــدو، حتـى محطته الأخيرة هنا في الصقلاوية، كان لا يتأخر بإجابتنـــــا حين نطلـــــب منه التريث بالنزول الدوري لما يحين موعد إجـــازته، والدليل على ذلك إن يـــــوم استشهـــــاده كـــــان يـــــوم إجازتـــــه لكن الشيخ (لقمان البدران) أراد تمديد واجبه فوافقه على الفور، لقد كانت زوجته حاملا حينها وعلى وشك أن تنجب، لكنه بقي رغم ذلك.
حينما وصلنا إلى حيث تدور المعركة وكانت الساعة حينها تشير إلى الحادية عشر والنصف مساءا، كان برفقتي حينها السائق (حيدر عبد هاوي)، وجدنا السيد (أباذر العوادي) مع مجموعة من أفراد الحشد الشعبي، وكان معهم والد الشهيد (حسين) فهو قائد ميداني بإحدى قطعات الحشد الشعبي، كانوا جميعهم بانتظارنا. انطلقنا معا نحو الساتر الأمامي، التقينا بضباط الفرقة العسكرية المرابطة هناك، فنصحونا بعدم التقدّم لأن المنطقة ملغومة وخطرة جدا، ولا ننصح بدخولها مطلقا، وقد علمنا من خلال التصوير الحراري إن الدواعش قد قطعوا رؤوس الشهداء، والأغلب إنهم فخّخوا الجثث، وهنا خطورة الأمر تبدو مضاعفة عليكم. قالوا لنا:
- إن مجموعة الشيخ أحمد أبو الخير قد توغلت نحو المكان قبلكم، ولا نخفي عنكم إن قلنا إنهم في عداد الموتى الآن في هـــذه الظروف الحرجة.. ولكـــــم القـــــرار في نهـــــاية المطاف.
بعـد أخذ وجذب وما رؤوا فينـــــا من إصرار على التوغل وانتشال جثة الشهيد (حسين) لم يسمحـــــوا إلا لثمانية منا فقط بالدخـــــول إلى هناك، كان يرافقنـــــي (حيدر عبد هـــــاوي)، والشيـــــخ (جعفـــــر المظفر) وخمســـــة مقاتلين، حينها انقسمنـــــا لمجموعتين، مجموعة تتقدم وأخرى توفر الحماية من الخلف، وعندما أخذنا بالدخول إلى عمق تلك الأحراش تفـــــاجأنا بحركــة قريبـــــة منـــــا، كنــا نستعد لإطـــــلاق النـــــار، والطـــــرف المقابل كذلك، كنا نواجه بعضنا البعض، لكننا وقبل أن نتبادل النار سمعنا أصواتهم، نعم إنهم مجموعة الشيخ أحمد أبو الخير، وقد كانوا يتجهزون كي يطلقوا علينا النار ظنا منهم إننا من العدو ولكن لحسن الحظ لم يحصل ذلك.
كان تقدمنا بطيئا جدا؛ لكثرة الأحراش واقترابنا من مواقع العدو، وحتى لا نثير أي صوت كان يتوجب علينا الهدوء التام، بقينا نبحث عن الشهداء عند مكان سقوطهم لما يقارب النصف ساعة، حتى عثرنا عليهم أخيرا، كان معنا الأستاذ تحسين من الجهد الهندسي الذي نصحنا بعدم الاقتراب من الجثث لأنها قد تكون مفخخة، تقدم تحسين بمفرده وراح يحرك يده اليمنى على الجثث، تفحصها جيدا حيث أقدامهم وبطونهم وأيديهم، وبعد أن اطمأن أن الجثث ليست مفخخة، استخرج من جعبته حبلا، قام بربط رجل الشهيد حسين بذلك الحبل وسحبه بهدوء تام، كشف الجثة إلى مكان قريب منا، بعدها فك الحبل عن رجل الشهيد وعاد مرة أخرى لجثة الشهيد محمد، فعل معها كما في المرة السابقة، جرها إلى جانب جثة حسين، كل ذلك ونحن نترقبه بشدة وحذر شديد، كان الشهيد محمد مقطوع الرأس أما الشهيد حسين فوجهه مهشم تماما، بعدها نادى علينا الأستاذ تحسين كي نعينه برفع الجثتين، تحركنا نحوه، أخذنا نحمل الجثتين إلى حيث موقعنا في الخلفيات، كان تحسين يتأكد للمرة الأخيرة أن الجثتين ليستا مفخختان.
استغرقت عملية إخراج الجثتين ما يقارب الأربع ساعات، حتى وصولنا للساتر الأمامي، تقدّم والد الشهيد (حسين) من جثة ولده، فقبله قدمه، وقال: لقد سبقتني للجنة يا بني. بعدها انطلقنا إلى مطار بغداد ووصلنا بحدود الساعة السادسة صباحا إلى هناك لاستلام شهادة الوفاة، عندها اتصل بنا الشيخ (بهاء الناصري) ليعلمنا بنبأ استشهاد الشيخ (لقمان البدران)، وهو ما استدعى لانتظارهم كذلك في المطار كي يتم نقل الشهيدين معا، لا يمكنني أن أنسى تلك الليلة ما حييت، وكيف سقط هؤلاء المقاتلين الواحد تلو الآخر، دون أن يثنيهم الخوف من مواصلة دفاعهم المقدس عن الأرض.