شجاعة بلا حدود
الحرب التي تنقصها الشجاعة والمغامرة هي حرب فاشلة لا محالة، هكذا كان يستمع (محمد المالكي) لأحد قادته الكبار في جهاز مكافحة الإرهاب وهو يتحدث إليهم محاولا شد عزيمتهم، وجعلهم مهيئين نفسيا وجسديا لأي طارئ قد يواجههم، في تلك الأثناء كانت المعارك تقترب من نهايتها، فمقاتلو الجيش والحشد وجهاز مكافحة الإرهاب يتواجدون الآن في عاصمة الدولة المزعومة للدواعش، هم الآن في منتصف مدينة الموصل، ولكنهم يواجهون عقبات كثيرة، من قبيل الأزقة الصغيرة والمتداخلة مع بعضها، والتي لا بد لهم من تطهيرها من بقايا المجاميع الإرهابية، كان (محمد) أحد العناصر التابعين لرتلٍ عسكري من جهاز المكافحة، دخلوا أحد أحياء الموصل القديمة، وقد نبهتهم المصادر إلى تواجد أعداد من الدواعش في هذا الحي، ولكن كيف سيتخلصون من أعينهم الاستطلاعية كي يصلوا إلى تلك المجاميع من دون التنبه لهم، كان لزاما على جهاز المكافحة أن يبعث بفرق راجلة تتصيد حراسات الدواعش المتخفين بين البيوت القديمة، ولكن الوضع خطر جدا، أصابت الحيرة الضابط المسؤول عن ذلك الرتل، فانبرى إليه محمد يحدثه:
- سيدي اسمح لي أرجوك أن أتسلل بينهم فأقضي عليهم واحدا تلو الآخر، دون أن يشعروا بي.
- اسكت يا محمد، دعني من تهوراتك، هل تريد مني أن أضحِّي بك، هذه حرب يا محمد وليست لعبة أبدا، اسكت رجاءً.
- أعلم يا سيدي أنها حرب وإلا كيف تطوعت في أخطر جهاز أمني في الدولة، أنتم من يجعل الحرب لعبة سهلة، هل تطلب مني الآن أن أسكت لأنك تخاف على حياتي، سيدي أرجوك اسمح لي أن أحدثك عن خطتي، أرجوك..!
- قلت لك أن تسكت، وتلتزم الهدوء، أو أنك تريد أن تعصي أوامري..؟
- لا أبدا يا سيدي لم ولن أعصي لك أمرا، ولكن فقط استمع لي وبعد ذلك قرر، حتى وإن كان قرارك بمعاقبتي لا بأس سأتقبل ذلك بصدر رحب.
بعد أن أذن له ضابطه المسؤول بالحديث نتيجة ما رآه من إصرار كبير على الحديث، راح (محمد)، يحدث قائده قائلا: سيدي بما إنهم قليلوا عددٍ كما جاء في التقرير الاستخباراتي، فعلينا أن نداهمهم خلسة كي ينتبه أتباعهم فنفقد السيطرة على الموقف حينها، أشار إليه الضابط، وما هو العمل من وجهة نظرك؟، أن تسمح لي وحدي فقط أن أدخل في وسطهم على إنني داعشي مثلهم، سأتنكر بزي باكستاني مثلهم تماما، وأقضي عليهم واحدا تلو الآخر، لقد علمتني الدورات والمعارك المتكررة مع هؤلاء طرق التسلل إليهم، ومعرفة نقاط ضعفهم، تيقن يا سيدي أنك ستفرح بما سأقدم.
لم يكن أمام الضابط من حلٍّول سوى موافقة محمد على ما ذهب إليه؛ لأنه يعلم أن الحي يكتض بالسكان الذين وضعهم الدواعش كدروع بشرية يضغطون فيها على الجيش لكي لا يتقدم باتجاههم، وعلى هذا الأساس كان لا بدَّ من التسلل خفية واقتناص الدواعش بهدوء تام، ما يعرفه من محمد وما سمعه عنه يعطيه دافعا كي يسمح له بالذهاب، وتخليص هذا الحي من بقايا الدواعش وفتح الطريق أمام الرتل العسكري كي يواصل تقدمه.
بعد أن أخذ الإذن من ضابطه المباشر، استعد (محمد) جيدا لهذه المهمة، وقف وودع اخوته في السلاح، ثم تحدث إلى بعضهم بشؤون تخصه، وقال لهم وصيته الأخيرة، لم يخف أصحابه خوفهم عليه، فحذروه كثيرا، حتى إنهم أوصوه أن يطلق النار على نفسه ولا يقع أسيرا بينهم إن واجهته المصاعب ولم يستطع النجاة، كان يبتسم بوجوههم يطمئنهم إنه سيكون بخير وسيعود لهم عن قريب، حتى إنه عاهدهم على ذلك، ثم نزع زيه العسكري وارتدى زيا باكستانيا كانوا قد وجدوه في أحد البيوت، مع كوفية حمراء غطى بها وجهه كي لا يتم التعرف عليه من قبل الدواعش، ثم حمل سلاحه، وتقدم نحو مكان تواجدهم الذي لا يبعد كثيرا عن مكان استقرار الرتل العسكري.
بأكثر من شيء كان تفكير محمد يأخذه بعيدا عن هذه الأرض إذ عائلته هناك، إذ أصدقائه وأبناء محلته، إذ زملاءه وضابطه، يفكر بقلقهم المتزايد عليه بعد كل ساعة تمر وهو ليس معهم، فكَّر كثيرا بقدرته على التعامل مع الموقف، لا بدَّ عليه من أن يتحلى بأعلى درجات الهدوء إذا ما واجهته مجموعة من الدواعش، لم يشعر أنه قد يدخل في دوامة الأسئلة هذه، لذلك قرر أخيرا أن يفرغ رأسه من كل شيء سوى القيام بمهمته، كان بحاجة ماسة لنفس من دخان سيجارته، ولكنه تراجع كي لا يكشف وجهه، لذلك قرر مواصلة السير.
دخل (محمد) أحد الأزقة، فوجئ بوجود اثنين من الدواعش كانا يتمشيان في الزقاق، يقطعانه ذهابا و إيابا، كان أحدهما ضخم الجثة والآخر يتمشى إلى جانبه كأنه ظله، اقترب منهما، لم يبد شيء من وجه محمد سوى عينيه، نادى عليه أحدهم الذي كان يسير إلى جانب الضخم، قائلا:
- أنت، أبو من، عرف نفسك بالحال.
- أنا من الأخوة يا حاج، هكذا ردَ عليه محمد.
حينما أحس إنهم اطمأنوا له، تقدم باتجاههم، كانوا يظنون إنه تقدم للسلام عليهم، حينها باغتهم محمد، فاستعان بسلاحه وصوبه نحو الرجل الضخم، افرغ برأسه ثلاث طلقات أردته بالحال حدث، كانت حركة بسرعة الومض، الآخر كان مشدوها بما حدث أمامه، كيف يقوم داعشي بقتل زميل له، وهو بهذه الحالة من الشلل الفكري استل سلاحه ورمى على محمد طلقتين، لكن ارتباكه أفقده القدرة على التصويب الصحيح، حينها التفت عليه محمد ورماه برشقة طلقات أردته قتيلا بالحال.
يا له من موقف صعب..! ماذا لو استطاع هذا الداعشي إصابتي، أوو.. لكَ الحمد يا الله، هكذا كان محمد يكلم نفسه، وهو يراجع ما حدث معه قبل قليل. صوت الإطلاقات القريبة نبه الدواعش إلى وجود أمرٍ مريب يحدث في الزقاق، وعليهم أن يعرفوا ما حصل بالضبط، فخرج أحدهم من أحد البيوت القريبة على محمد الذي كان واقفا في منتصف الزقاق، وبمجرد أن لمحه محمد حتى صوب نحوه فأرداه قتيلا عند عتبة الباب مباشرة، تقدم نحوه فانتزع سلاحه، ثم واصل تقدمه بحذر شديد، كانت السيناريوهات تتوالى على مخيلته، مثل أفلام (الأكشن) التي كان يشاهدها في وقت سابق، كان مثل من يدخل في مهمة مستحيلة، وعليه أن ينهيها بأسرع وقت، قبل حلول الظلام.
استند إلى جدار عال من الأنقاض المتكدسة، كي يسحب أنفاسه بهدوء، فهو في الدائرة الحمراء تماما، إذ الدواعش في كل مكان يحيطون به، وهو يسند ظهره إلى ذلك الجدار، يلقم سلاحه، ويستعد، إذا به يستمع لأصوات أقدام تقترب من جثة الداعشي الذي قتله محمد قبل قليل، وهو ينادي على جثة صديقه: أبا أنس... يا أبا أنس.. انهض يا رجل..!
ترصده محمد خلف ذلك الساتر، وهو يشاهد ذلك الداعشي يصرخ بصوت عالٍ بعد أن مرَّ على جثث زملائه الثلاثة، فحاول أن يضع حدا لصوته المتعالي لكي لا ينبه الدواعش الآخرين، فصوب سلاحه عليه ورشقه بأربع رصاصات في رأسه من الخلف خرجن من عينيه ووقع على الأرض، قفز محمد من مكانه وتقدم نحوه حتى وأخذ سلاحه ، ثمّ قام بتفتيشه فوجده يرتدي حزاماً ناسفاً وعنده جهاز مناداة وهاتف نقّال، فاخذ جهاز مناداته، ونقاله الخاص كي يحتفظ به لأغراض أمنية قادمة يتم فيها التعرف على بقية الدواعش من خلاله، بعدها سمع من جهاز المناداة أمير الدواعش وهو ينادي على صاحبه عدة مرات حتى يحدد مكانه بالضبط، ثم رنّ الهاتف النقال، أسماء من قبيل (أبي حذيفة)، و (أبي عبد العزيز) كانت تظهر على شاشة النقال وهو يرن، لم يجب محمد أبدا، لكي لا يكتشف سره.
بعدها تقدّم الى بيت آخر كان الدواعش قد وضعوا على الباب ستاراً؛ لكي لا ينكشف مكانهم، فأزاح الستار ودخل فوجد اثنين منهما، لكنّهما لم يخشياه؛ لأنه كان يرتدي زيّا مشابها لما يرتدون، وبمجرد أن دخل أطلق عليهما النار، فقتل واحداً وأصاب الأخر في بطنه، فحاول الهرب ودخل الى إحدى الغرف، تبعه محمد وأجهز عليه، واخذ أسلحتهما وخرج.
حينها كان الظلام يهبط بسرعة، وتيقن أنه أحدث فجوة في دفاعات الدواعش، قرر محمد أن يعود إلى أصحابه أخيرا، فعاد يتلمس طرقا خفية كي يصل بسرعة من دون أن يشعر به أحد، كان الخوف قد أخذ مأخذه من أصحابه الذين طال انتظارهم لمحمد، وبينما هم كذلك حتى تفاجأوا برؤيته بينهم، احتضنوه كثيرا، ومازحوه قائلين: أيها المتهور حسبناك ميتا هناك. استدعاه الضابط فأخبره محمد بما جرى معه، وسلمه الهاتف النقال الذي صادره من جثة الداعشي الذي قتله، ثم أخبره بأن الطريق سالك لإتمام مهمة تمشيط ذلك الحي.