حصار بادوش
المآزق العظيمة تظهر معادن الرجال، الاحتكاك بالمصير يوضِّحُ عظمة التضحية، أن تعلق في مستنقع الموت واردٌ جدا وبشكل طبيعي في حالة استثنائية تسمى (الحرب)؛ لأنك هناك لا تملك سوى أن تصارع غولا خفيِّا اسمه الموت، يتمثل بالرصاص والقنابل، لكنكَ لست وحدك، المئات على شاكلتك، هم أصحابك، قضيتكم واحدة، وحلمكم بغدٍ ليس فيه (الدواعش) واحد أيضا، كيف ستتعامل مع من يريد مساعدتك، يجد فيك طوق نجاته الوحيد، وأنتم جميعا محاصرون..!
كل هذا راودني بعد أن أتممنا تحرير مدينة الموصل، تقدمنا باتجاه مناطقها المتعدِّدة، كلٌّ بحسب ما خُطِطَ له، نحن الآن نتقدم باتجاه منطقة (بادوش) التي تشتهر بسجنها الكبير جدا، لم نكن نعلم أنا سنسجن بين أروقتها. كان فصيلنا المسلح تابعا للحشد الشعبي، في الطريق واجهتنا عقبات عدَّة، خطوط أمامية للعدو، اشتبكنا معهم بشراسة، استطعنا أن نزيلهم عن طريقنا، المسافة تقترب بفعل تقدمنا السريع، كنت أنظر إلى الأمام إذ معمل (الإسمنت) الذي لا بدَّ من تحريره هو الآخر؛ لأنه ما يزال مكانا لتحصينات العدو، وجاءت الأوامر بالتريث قليلا لانتظار قوات الإسناد من فرقة الإمام علي (عليه السلام)، والفرقة التاسعة من الجيش العراقي، كان المغزى من الانتظار أن نهجم دفعة واحدة على العدو الذي يفوقنا بالعدة والعدد حينها.
في تلك المناطق إذ كل شيء يصطبغ بلون رمادي لا تكاد تميز ما تراه أمام عينيك، لا تسمع سوى أزيز الرصاص وهو يتخطى جوانبك، تفرح أن الموت تجاوزك هذه المرة، لكنه تحذير لك أن القادم قد يستقر على في جسدك، وقفنا في أماكننا ننتظر قدوم قوات الإسناد. المنطقة كبيرة جدا، بحيث أننا لم نستشعر ما كان يدور خلف ظهورنا، آلية سريعة تنطلق من مقرات العدو لتتسلل خلفنا، تقطع طريقنا من الخلف بعشرات العبوات المفخخة، كانت مراوغة مباغتة لم نحسب لها حسابا. الآن نحن بين فكِّي حصارٍ مطبق. الطريق الذي خلفنا تمَّ قطعه تماما، وما يطالعنا في الوجه هو عدو يتمركز جيدا ويعرف دهاليز هذه الأرض بصورة تمكِّنه من قتلنا في أية لحظة ممكنة.
ما يهمُّنا الآن هو إسعاف الجرحى الذين أصيبوا نتيجة معارك التقدم التي خضناها في الساعات الماضية، ما هي قدرتنا على المقاومة، وهل نستطيع الصمود إلى حين تأتي فرق الإسناد؟ هذا ما كنَّا نفكِّر به حينها، كنت أعلمُ جيدا أن الأمور ليست سهلة المنال مطلقا، ولاسيما ونحن في حرب مع متسللين غادرين، لكن أن تصبح بهذا السوء فهو ما لم نحسب له حساباً أبدا، وبينما أنا في حيرتي هذه، إذا بمقاتل منا يتقدَّم نحوي قائلا:
- شيخنا أعتقد أنَّ قوة الإسناد ستتأخر علينا بعض الوقت..
- كيف، ماذا تقول..؟ هل سنترك محاصرين هكذا؟ أرجوك أخبرني ما الذي يحدث معهم، ولأي سببٍ سيتأخر مجيئهم؟
- أظن أنهم ينتظرون مثلنا تماما، فقد وصلني إرسالهم بخبر مفاده أنهم لن يتقدموا ما لم تكمل فرقة الجهد الهندسي مهامها، وتزيل العبوات من جانبي الطريق، أو أنهم سيشقون طريقا ميسميًّا قريبا من الطريق الرئيس الذي تقطعه العبوات.
تتشابك الأمور فيما بينها، الليل يسدل ستاره، ليعلن عن حالة تأهبٍ قصوى بين صفوفنا، توزعنا على مجاميع صغيرة، منّا من يراقب، وآخرون يرابطون قريبا من الساتر الأمامي، وقسم كبير راح يعتني بالجرحى، كانت المواجهات خفيفة بيننا وبين العدو، لكننا استطعنا أن نوصل رسالة للدواعش على أننا مستعدون لمواجهتهم، وهو ما أعطانا فرصة كافية لتدبير أمورنا في تلك الليلة، لم يشن العدو علينا هجومه الكاسح كما كنا نتوقع.
بينما نحن ننشغل بالمناوشات المتقطعة مع فرق العدو الاستطلاعية، لم يذهب عن ذهني أن أفكِّر بالجرحى الذين يعانون، شاهدت المقاتلين الذين بقوا معهم يعتنون بإخوتهم كأنهم أنفسهم، كانوا مشغولين بضمادهم ومحاولة زيادة همتهم، ورفع منسوب صبرهم كي تنقضي تلك الليلة، كانت جبهتنا عبارة عن خلية نحل، نحاول الخروج من هذا الحصار اللعين، كانت أدوات المقاتلين الذين بقوا مع الجرحى بسيطة وقليلة جدا، استعانوا بملابس لا يحتاجونها كي يشدوا جراح أخوتهم، المنظر أصبح أكثر شاعرية، ملائكة في الإنسانية يتطايرون بكل اتجاه كي يسعفوا أخوتهم، ويخففوا من آلامهم.
الوقت بطيء جدا، الدقائق لا تريد أن تتحرك باتجاه الفجر، القلق من عدم وصول قافلة الإسناد في الوقت المحدد، الخوف على الجرحى من فقدان الأمل، والتأهب لهجوم مباغت من قبل الدواعش في أية لحظة، كل تلك الأمور كانت تتجمع في رأسي وأنا أفكر بالقادم الذي أجهله، في خضم تلك التعاقبات الشديدة التي تلح على عقلي بكثير من الأسئلة، وإذا بصوت منبه جهازي النقال يشير إلى حضور صلاة الفجر، أذّن المنبه قربي، تنفست بهدوء، بعدها انقشع الليل رويدا رويدا، عند الصباح تماما وبينما نحن ننتظر، وإذا بصوت مركبات بعيد، غبار محبب يقترب منا، كانت الأمور تكشف عن قوات الإسناد، قفزنا من أماكننا، ركضنا نحو جرحانا مباشرة، استعدنا قوتنا بعض الشيء، جهزناهم للإخلاء، ورحنا نستعد معهم لعملية تحرير ما تبقى من منطقة (بادوش).