السمو
التناسخ صفة ملازمة في هذه الحياة، فالخير لا يستنسخ سوى الخير ولا يترك إلا أثر طيبا في الأنفس، أما الشر فإنه يستعير أدواته، قد يغير ألوانه، وصفاته، ولكنه يبقى على أية حال شرا هذا ما كان يتحدَّث به (أبو رزاق) لصبية محلته، وهو يحاول غرس حب الوطن في قلوبهم، أبو رزاق، معلِّم متقاعد، كان يشرح لهم ما واجهه من صعوبات ومشاكل في عهد الطاغية، في إحدى المرات قال لهم: «داعش لا يمكن أن تكون إلا امتدادٍ للشر، غيمة من سحب كثيرة واجهها هذا البلد على مرِّ تأريخه، عليكم يا أبنائي أن تكونوا متيقظين دوما لما يحيط بكم، وعيكم هو ما سيخلق مستقبلا واعدا لهذه البلاد».
كان أبو رزاق يجلس على مائدة الغداء مع عائلته، حين كان التلفاز ينقل خطبة الجمعة من الصحن الحسيني الشريف، وهـــــو يناظـــر ذلك الشيـــــخ ذو اللحيـــــة البيضــاء، ينقل مـــــا عزمت عليه المرجعيـــــة العليـــــا، وأفتت به لجميـــــع أبنـــاء البـــــلد دون تمييز من ضـــــرورة مقاتلــة الدواعش ودفــع خطرهم عن العراق بكـــل مقدســـاته، طار أبـو رزاق فرحـــــا بمـــــا سمعـــه، لكنه لم يستطـع المواصلة، قدرتـــــه لم تكن كمـا في السابق، ضعف بصره، وقواه الخائرة بعد كل هذا العمر، لكنه التفت إلى ولده رزاق، تحدث إليه بنظراته، فهم الولد ما يرمي إليه، نفض الطعام عن يديه، وقال لأبيه: «لن أخيب ظنك، سأقاتل بالنيابة عنك، أعاهدك أني لن أخون هذه البلاد، فقط انتظر وسترى النتائج».
التحق رزاق بمعسكرات التدريب القريبة من منطقته، كان والده يرافقه في جولات التدريب، يجلس على جنب، يشاهده والده وهو يرافق أصحابه في جولات الركض والتعلم على السلاح، كان فخورا بما ينجزه رزاق في تلك الأثناء، يطالعه بهيبة كبيرة، يدعو له في سرِّه، يتمنى لو أنه يشاركه في ثواب هذا الجهاد، ولده كان طالبا جامعيا على درجة كبيرة من الوعي والثقافة، يعرف تماما ماذا يريد، لم يكن ليخيب ظنّ والده به. تعلَّم رزاق بسرعة كل ما تدرَّب عليه، ولم يكن أمامه سوى أن يحزم أمتعته حتى يتوجه إلى القتال، ودَّع والده، وقبل يديه، وطلب منه الدعاء.
انتقل رزاق مع القطعات المتوجهة نحو سامراء، هناك ارتبط مع الفصيل المسؤول عن تفكيك العبوات الناسفة، كان ماهرا بدرجة كبيرة، لم تستعص عليه أية مهمة، كان يفاخر زملائه بمهارته في تفكيك العبوات، وكان يمازحهم: «إني أشم رائحة العبوات من مسافة كبيرة، وأستطيع اقتلاعها من الأرض بخفة متناهية». كانوا يمازحونه دوما بأنه صياد العبوات، في أيام إجازته الدورية، كان ينقل ما يحدث معه لوالده، يحدِّثه عمَّا يجري في الجبهة، الوالد كان ينصت بعناية لما يسمع، يربت على كتف ولده، يشجِّعه، يشد من أزره، ويدعو له دائما.
في إحدى المعارك تقدَّم رزاق مع أصحابه ليطهر هذه الأرض من بقايا الدواعش، كان يحلم بالقادم من أيامه دون وجود أي منغص، فجأة توقف رزاق رافعا صوته محذرا الجميع من التقدّم، انتبه أصحابه إليه، كانوا ينظرون لزميلهم مستفهمين عن سبب توقفهم، كان رزاق يطالع الطريق الضيق الذي أمامه، كان الطريق يشق ربوتين مرتفعتين، لقد اكتشف رزاق أن هناك خطبا ما، التفت إلى قائد مجموعته قائلا:
- أشك أن هناك عبوة ناسفة بين هذين المرتفعين..!
- وما العمل يا رزاق؟
- دعني أتولى الأمر، لكن عليك أن تأمر الجميع بالتوقف، لا أريد لأحد أن يتعرض للخطر، سأتعامل مع هذه العبوة بما أمكنني.
كان رزاق يخطو ببطء نحو مكان العبوة، وصل إلى المكان المحدد، الجميع يتطلع نحوه، هم يعقدون عليه الآمال، كي يزيح هذه العقبة من أمامهم، جلس على ركبتيه، أزاح الطبقة الخارجية من التراب، لتصدق ظنونه. نعم لقد كانت عبوة ناسفة، لكنه فوجئ كثيرا بمنظرها، هو لم يشاهد مثل هذا التعقيد بنصب العبوات المفخخة من قبل، لقد كانت عبوة موقوتة، ربطت بعناية فائقة، أشار إلى الجميع من بعيد بعدم التقرّب مطلقا. ما أن حرك أول خيط من أسلاكها، حتى بدأ جهاز التوقيت بالعد التنازلي، حاول بكل قدرته تجنب أي مكروه، أراد أن يوقف نبضات ذلك الجهاز، ولكن دون جدوى. سمع رزاق صوتاً عاليا يطالبه بالابتعاد، كان صوت قائده المباشر، أصحابه كذلك صاروا يتصارخون مطالبين إياه بالتراجع، رزاق تحيَّر كثيرا في موقفه ذلك، لكنه اقتنع في النهاية أن الانسحاب هو الطريقة الأسلم، عليه التحرك بسرعة إذن، ما أن وقف على قدميه، خطوة واحدة، ثمَّ خطوتين، وإذا بصوت انفجار هائل يهز المكان، كان رزاق قد طار مع عصف الانفجار في وقتها، لم يستطع النجاة، كانت جثته قد تطايرت في السماء وتوزعت على أجزاء وتناثرت في أرجاء المكان. الصمت يعمُّ كل شيء، ركض أصحابه نحوه، كانوا يتصارخون ويبكون، وهم يلملمون أجزاء جثة صديقهم..!
بعد أيام وصل نعشه إلى منطقته، كان الوالد واقفا أمام داره، يطالع نعش ولده ملتحفا بالعلم العراقي، تقدّم نحوه، لم يكشف عن نعشه، بل وقف شامخا مفتخرا بما أقدم عليه هذا الفتى الشجاع، لم تسقط من دموعه قطرة واحدة، كان يتكلم مع نفسه بكل فخر، التفت للجميع ، نادى بهم لكي يكفوا عن البكاء، أخبرهم أنه لن يتقبل أية تعزية بولده، بل يجب أن يقدموا له التهاني والتبريكات بهذا الشهيد الشاب، حينها أقيم لرزاق مجلس فاتحة كبير، كانت وفود الناس تهب إليه من كل صوب وحدب، كانوا يشاهدون الوالد واقفاً بصلابة وشموخ في بداية السرادق.
في ثالث أيام العزاء، وبعد أن أنهى الخطيب فقرة التعزية الحسينية، طلب أبو رزاق من الخطيب أن يعيره لاقط الصوت بضع ثواني، انتبه جميع الحاضرين لما سيقوله الأب المكلوم بولده، أبو رزاق يواجه جموع المعزين، سلم عليهم جميعا، وقدم شكره لهم لتجشمهم عناء القدوم وتقديم المواساة، ثم اعتذر منهم، طالبا الصفح، لعدم قيامه بضيافتهم، وإنه لم يصنع مأدبة طعام، طيلة أيام الفاتحة، كان يصارحهم: «ان تكاليف الطعام وغيره، كنت قد قدمتها تبرعا لقطعات الحشد الشعبي، نحن لسنا بحاجة للطعام والشراب هنا، فبيوتنا عامرة والحمد لله، لكن على الجبهة هناك إذ أولادنا يواجهون أشرس هجمة إرهابية. إنهم بحاجة لكل ما نستطيع تقديمه لهم، لذلك آثرت تقديم كل ما أستطيع لقطعات المقاتلين على الجبهة، بقي هناك أمر أخير يا أخوتي، أستحلفكم بالله وأرجوكم، أن تساهموا ولو بجزء بسيط لتلك الثلة من شبابنا، ومن هذه اللحظة قبل أن تختموا عزاءكم»، ثم أخرج من جيبه ورقة نقدية، كان قد وضعها في طبق دائري فارغ يحمله شاب في مقتبل العمر. جال ذلك الشاب على جميع الحاضرين، وهم يخرجون قدر استطاعتهم ويضعونه في ذلك الطبق.
أبو رزاق كان فرحا بما يشاهد، هو الآن يشعر أن أمانته تجاه ولده قد وفيت، الجميع كان فرحا بما أقدم عليه أبو رزاق، انتشرت حكايته في أرجاء عديدة، بوصفها المثال الحي في التضحية في كل شيء لأجل الغاية الأسمى تحرير الوطن.