نخوة للوطن

{ المصدر : الموسوعة التوثيقية الكبرى لفتوى الدفاع عن عراق المقدسات }

اليوم مغاير لما هو معتاد في كليتنا، خرجنا أنا و(محمد البدري)صديقي في الكلية نفسها والقاعة ونتقاسم غرفة واحدة في القسم الداخلي، خرجنا إلى الكلية، البارحة كانت هناك أنباء تتحدث عن هجوم مفاجئ على مدينة الموصل، الأخبار كانت متضاربة في تلك الليلة، لم ينم محمد أبدا، كان يفكر وهو غاضب بشدة، ما الذي سيحصل لو أن الإرهابيين دخلوا الوطن؟، كيف سيتعاملون مع الناس هناك؟، الكل سيعاني من ظلامهم، أنا متأكد من هذا الشيء تماما، هكذا كان يتحدث محمد معي،رجوته أن ينام فلم يستجب أبدا، كان فزعا بشدة، ونحن نكمل مسيرنا إلى الكلية في هذا اليوم لم يتوقف محمد عن التفكير، وفي كل مرة يوجه كلامه لي: أنا خائف على الناس في تلك المناطق من هؤلاء الدواعش الأنجاس، وصلنا إلى الكلية، وبينما نحن نستعد للدخول إلى المحاضرة الثانية، اليوم هو العاشر من حزيران، وهي آخر أيام الدراسة قبل أن تنطلق امتحاناتنا النهائية، دخل علينا الأستاذ، كنا متجاورين أنا ومحمد في المقعد، تحدث الأستاذ قائلا: هل تعلمون ما الذي حدث قبل قليل؟، تساءلنا كلنا بصوت واحد: لا نعلم يا أستاذ ما الذي حدث؟، لقد دخل الدواعش إلى مدينة الموصل وأعلنوا السيطرة عليها، واتخاذها عاصمة لدولتهم في العراق..!، كنا متفاجئين ونحن نستمع لهذا الخبر الذي نزل علينا مثل الصاعقة، ألتفت إلى محمد فرأيته يصكُّ أسنانه بقوة، راحت يده تعصر القلم وتقلبه، حتى كسره أخيرا.

راح الأستاذ يتحدث عن خطورة الوضع، متكلما عن انكسار الجيش، وحالة البلد التي تهتز كثيرا، حتى تحولت المحاضرة إلى حلقة حوارية، والكل يحاول أن يدلي برأيه عن مستقبل الأحداث، وما هو المتوقع بعد هذه الموجة، محمد كان صامتا طول هذا الوقت، حتى وصل الحديث إلى نقطة مركزية مفادها إن الدولة انهارت في هذا الوقت و الدواعش لا يبعدون كثيرا عن بغداد، هنا انتفض محمد صارخا بكل قوة: لن يستطيعوا أن يتقدموا أكثر لا يعلمون من نحن لذلك تورطوا كثيرا، سيكون وطننا مقبرة لظلامهم وعفنهم وستتكلم الأيام عما سنفعله بهم.

هنا التفت إليه الأستاذ وبشيء من الحزن قال له: محمد يا عزيزي، عراق ما قبل داعش يختلف عن عراق ما بعد داعش، من حقك أن تطلق كل هذه الصيحات لأنك لا تقدر الوضع، يا عزيزي النساء تحولت إلى سبايا عند الدواعش، والرجال إلى خدم مطيعين، والقتل وسفك الدماء هو الطابع العام لهؤلاء.

انتفض محمد من مكانه وصاح (آآآخ) بكل قوته، كيف تتحول النساء إلى سبايا، لا قرت عيني بلحظة نوم بعد هذا، أخواتنا وأمهاتنا وجوههن الشامخة كيف تقابل كل ذلك الحقد في وجوه خنازير الدواعش .. ويلاه يا يمه .. وأخذ يبكي بحرقة كبيرة، القاعة ضجت بالبكاء في حينها، أطرق الأستاذ برأسه وطلب من محمد أن يكمل حديثه ويفرغ حرقة قلبه.

بعد ذلك سارع محمد بالرجوع إلى مدينته، الناصرية التي يحبها كثيرا، محمد وهو يتتبع المسافات من بغداد أخذ يخاطب المدن التي يمر عليها، من الحلة إلى الديوانية إلىالسماوة إلى الناصرية، هل سينسى هؤلاء الجنوبيون شجاعتهم؟ هل سيغضون الطرف عما قام به أهلهم في ثورة العشرين، لا.. لا أعتقد ذلك أبدا، سينتفض أهلي، فأنا أعرفهم جيدا، لكن كيف ذلك، ومتى، إيه متى تصل هذه السيارة إلى الناصرية؟.

بعد مرور ثلاثة أيام وتحديداً في يوم الجمعة تحديدا، كان محمد جالسا على الغداء مع أهله، حينما تنبه إلى أن جميع القنوات الإعلامية تشير إلى التنبه إلى بيان مهم سيصدر خلال خطبة الجمعة من كربلاء المقدسة، لم يستطع محمد الأكل كان ينتظر حديث الشيخ على أحرِّ من الجمر، وحينما تمَّ الإعلان عن فتوى الدفاع الكفائي، قفز محمد من مكانه وهو فرح جدا، أخذ يهزج في منتصف البيت مع أمه وأخوته، بعدها اكتظت الشوارع بالتجمعات البشرية المؤيدة لهذه الفتوى، ومعلنة استعدادها للانخراط في القوات الأمنية والدفاع عن الوطن، محمد نزل مع أبناء عشيرته وهو يتباهى بسلاحه، وهو يطلق الشعارات الحماسية ويقف بالمنتصف، ويتحرق للالتحاق بتشكيلات القوات الساندة للجيش.

بعدها التحق محمد بتشكيلات الحشد الشعبي، كان فرحا بما ينجزه، طلب معاونة جامعته، والتي سهلت عليه وعلى زملاءه الذين يشاركون ضمن صفوف الحشد كي يتمكنوا من مواصلة قتالهم، كانت تتوالى أخباره إلينا، فقد صار يكنى هناك بكنية (أبو صكَر)، الكل كان يتعجب من حماسته واندفاعه، وعدم تهيبه من أية مهمة تُلقى على عاتقه، كان يحدثهم دائما أنه ابن الناصرية، يتباهى كثيرا بمدينته التي تفتخر بشجعانها دائما، لم يقطع محمد صلته مع دراسته، ولم يتخل عن واجباته مع الحشد الشعبي، كنت أجده مثالا في التفاني والهمة العالية، حتى أني سألته ذات مرة: محمد كيف تجمع بين متطلبات الدراسة، وبين واجباتك هناك على الجبهة؟، أجابني وهو يبتسم: هل تعلم أني أتعجب من نفسي، كيف إني أتمتع بكل هذه الوداعة واللطافة هنا في الكلية، بينما أعيش عالم الموت والشراسة وتدافع الرجال هناك على الجبهة، هل تعلم: أعتقد أن هناك يدًا خفية في الموضوع هي ما تدفعني نحو التزاحم على الموت مرة ونحو الحياة وهدوئها مرة أخرى، أعتقد أنها اختبارات متتالية كي تنطبق علينا صفة الرجال باستحقاق تام.

انقطعت أخبار محمد عني لمدة ليست بالقليلة، أتصل على جهازه فأجده مغلقا أو خارج نطاق التغطية، قلقت كثيرا، لم أتعود منه كل هذا الغياب فترة شهر ونصف ولم أسمع صوته، قررت أخيرا أن أتصل برقم أحد أصحابه في الحشد والذي أعطاني محمد رقمه وقال لي إذا تأخرت عليك ولم نستطع التواصل فاتصل بهذا الشخص هو كذلك صديق مقرب لي مثلما أنا وأنت، قررت أن أتصل على الرقم، الجهاز يرن ولكن من دون جواب، أعدت الكرة مرة ثانية، أجابني الصوت من بعيد:

- ألو تفضلوا من معي؟.

- السلام عليكم، أخي أنا صديق محمد البدري، أعتقد أنك تعرفه، ما الذي حدث له؟، فمنذ شهر ونصف ولم أسمع عنه شيئا أنا قلق عليه بشدة.

- بعد صمت قصير أجابني قائلا: لقد أصيب محمدا يا أخي.

- ماذا تقول؟، متى حدث هذا؟، وكيف حالته الآن؟، أرجوك أجبني.

- اهدأ وسأحكي لك القصة كاملة، لا تقلق هو الآن في المستشفى في مدينته الناصرية، لكنه تحت العناية المركزة.

أخذ الرجل يتحدث لي عن محمد، إذ أخبرني إنه في مساء من مساءات شهر شباط الباردة، كانوا يرابطون في منطقة تلعفر، حدث لهم تعرض، وكان تعرضا شرسا، أخبرني عن شجاعة صديقي التي أعرفها جيدا، قال لي: لقد سارع محمد نحو الساتر، وهو يرتجز في وسط المقاتلين، ولكن فور وصوله للساتر الأمامي سقطت بينهم قذيفة كانت موجهة بدقة عالية، طار محمد على بعد عشرة أمتار من سقوط القذيفة، وطار سلاحه من يده بعيدا، كان مصابا حينها، حاول الوصول إلى سلاحه لكنه لم يفلح.

استحضرت صورة محمد وهو يزحف على الأرض، كثيرا ما حدثني عن حبه لسلاحه الذي ورثه عن والده، أعتقد إنه كان يجاهد كي لا يفرط فيه أبدا، صراع من نوع آخر يخوضه محمد مع الموت، صورة الموت وهو يحتضن سلاحه ويشعر بدفئه على صدره، بينما أنا سارح أفكر بالذي حصل مع صديقي إذ نبهني صوت الرجل الذي يتصل بي الآن، هاا أين ذهبت يا عزيزي؟ معك.. معك لا تقلق أكمل لي ما الذي حصل لمحمد في تلك اللحظة، حسنا سأكمل:

- وبينما نحن نحاول ردم الفجوة التي حدثت على الساتر حتى تقدمت موجة كبيرة من الدواعش، نظرنا إلى محمد كان يزحف جاهدا، عشرة أمتار بينه وبين الدواعش، سيقطعون رأسه إن وصلوا إليه في هذه اللحظة سمعنا محمدا ينادي: يا علي، يا أبا الحسن كن معي، حينها لم نشعر ولكن أيدينا توجهت إلى بنادقنا وصار هجوما مضادا على الدواعش حتى تراجعوا بعيدا عن الساتر، ركضنا مسرعين كي ننجد الجرحى من انفجار تلك القذيفة، وجدنا محمدا بمكانه، وفي طريقنا إلى مشفى تلعفر كان أحد أصدقائنا ينادى على محمد أن يتلو الشهادتين فقد نزل به الموت، حينها راح محمد ينطق بالشهادة بصعوبة بالغة، تيقنا أننا خسرناه، وهو ميت لا محالة، وصلنا إلى المشفى كان محمد في وضع لا يحسد عليه، تجمع حوله الأطباء ولكنهم أجمعوا على أنه مفارق للحياة في هذه اللحظة، كنت أشاهد محمدا وهو يتمتم بشيء، قربت أذني من فمه كي أسمع ما يقول، تمتم بأشياء لم أفهمها، لكني سمعته يقول: نعم أعرفك يا مولاي، يا مولاي لكن أعذرني لا أستطيع الوقوف يا أبا الحسن، تقول لي أن أقف!! لا أستطيع والله. بعدها صمت محمد، وأعلنت حالة وفاته، لفت جثته بكيس وتم وضع رقمه التعريفي، بينما نحن كذلك إذ وصل ابن عمه ومعه بعض المقاتلين، فحملوه ليتكفلوا بنقل جنازته إلى أهله، وإذا بيد محمد تتحرك وهو في داخل الكيس، صرخ ابن عمه: محمد ما زال حيا، أسرع الأطباء إلى فتح الكيس ونقله على سرير متحرك، تم صعقه ست صعقات متتالية حتى عاد نبضه من جديد، كانت معجزة لا تصدق لولا أنها حدثت أمام عيني..!

كنت أستمع بدهشة لما يقوله صديق محمد لي في هذه اللحظات، كيف عاد إلى الحياة مجددا؟، كيف أن شجاعته تواصلت حتى أخر أنفاسه؟، محمد فارس يعارك الموت في سبيل أن يحيا ويشاهد آخر أيام الدواعش ويحقق وعده للأستاذ في تلك المحاضرة، بأنه سيكون شاهدا على طرد الدواعش من أرض الوطن نهائيا.

بعد نقله إلى مستشفى الحسين في الناصرية، كان محمد قد فقد يدا وجزءا من ساقه، هناك توالت عليه الزيارات لتخفف عنه، وتفتخر به، فكان أن وجه لبعض الحاضرين أهزوجة حماسية قال فيها: (الجَّف والساق الطاحن.. فدوة يروحن لأجل حسين)، كان فرحا بإصابته كثيرا، يبتسم دائما كما تركته، بعدها زارته والدته وهي ترفع عباءتها تلوح بها مفتخرة بتضحية ولدها الشاب، احتضنها محمد، وكان أن رفع عكازه معها بيده السليمة، وأطلق أهزوجة ثانية: (الجف والساق أنطيهن.. حتى تنامن مستورات)، محمد كان يتحدث لمن يلتقي به بفخر كبير، لم يستشعر ولو للحظة واحدة أنه فقد نصف جسمه، كان يشير دائما إلى أن إصابته وسام يتباهى به أمام الناس.