طوعة العصر

{ المصدر : الموسوعة التوثيقية الكبرى لفتوى الدفاع عن عراق المقدسات }

حفرت اسمها في تأريخ العراق.. فهي لم تطلب الشهرة ولم تفكّر بحصد الجوائز والمكافآت، فكان كلّ همّها انقاذ الطلبة الهاربين من مجزرة سبايكر وتخليصهم من بطش داعش، فعملت على إيوائهم غير مكترثةٍ بالمخاطر التي قد تلحق بها وبعائلتها لو عثر عليهم الدواعش عندها، ولا مبالية بالجواسيس الذين يوصلون الاخبار إلى داعش من داخل ناحية العلم.

حصلت مجزرة سبايكر في حزيران الفين واربعة عشر بعد سقوط الموصل بيد عصابات داعش، في منطقة القصور الرئاسيّة التابعة لمدينة تكريت في الضفة المقابلة لمدينة العلم من نهر دجلة، حينما خرج اربعة آلاف طالب علوم عسكرية من قاعدة سبايكر بعد اضطراب حصل في المعسكر في ظروف يحيط بها التعتيم على الحقيقة واحتمال خيانة جهات كبيرة متنفّذة في الدولة أدت إلى اخراج الطلاب من المعسكر من دون أسلحة ومن غير توفير الحماية لهم؛ فاستقبلهم ابناء العشائر في تلك المنطقة وقالوا لهم: أنتم في أمان ونحن سنوفّر سيارات تنقلكم إلى بغداد ومن هناك يمكنكم الذهاب إلى أهاليكم؛ فصدّق بهم الطلاب وركبوا تلك السيارات وهم لا يعرفون بنوايا ابناء بعض العشائر الخبيثة المتحالفة مع داعش وتم اقتيادهم إلى منطقة القصور الرئاسيّة وصنّفوهم على أساس الانتماء الطائفي وقاموا بإعدام كلّ من ينتمي الى المذهب الشيعي بطرق مروّعة فقتلوا أكثر من الف وسبعمائة شيعيّ في ذلك المكان؛ لتكون جريمة سبايكر أكبر مجزرة طائفيّة في تأريخ العراق الحديث.

بعد اقتيادهم إلى منطقة القصور الرئاسيّة تمكن عددٌ قليلٌ منهم من الهروب وعبروا نهر دجلة سباحةً ليصلوا إلى ناحية العلم التي كانت في ذلك الوقت تقف صامدة ضدّ هجمات داعش، فمعظم ابنائها رفضوا أن يبايعوا الدواعش وحملوا السلاح لحماية ارضهم وعرضهم.

عندما سمعت الحاجّة (علية خلف صالح) المكنّاة بـ(ام قصي) بوصول مجموعة من الطلبة إلى ناحية العلم اخذت تبحث عنهم على الرغم من معرفتها بأنّهم ليسوا من الطائفة السنّية التي تنحدر منها، فلم تشكّل الطائفة أو الدين عائقاً بالنسبة لها ما دام عملها بدافع الانسانيّة، وخلال البحث وجدت خمسة وعشرين طالباً فأخذتهم إلى بيتها، وقد علمت انّ عدداً من الطلاب الناجين من المجزرة قد توزّعوا على بيوت أخر.

كان أولاد ام قصي السبعة يرابطون على الساتر لصدّ هجمات داعش على ناحية العلم، فيما كانت هذه أمهم المسنّة تقضي الليل ساهرةً في صحن الدار خوفاً على الطلاب من دخول الدواعش لو حصل انكسار في الساتر، وكانت تخشى ايضاً من أعين العاملين لداعش داخل الناحية؛ لذلك لم تقرّ لها عين او يغمض لها جفن طيلة الخمسة عشر يوماً التي بقوا فيها عندها.

امّا الطلّاب فقد كانوا منهارين نفسيّاً بعدما نجوا من الموت فلم يكونوا يثقون بأيّ أحد وكانوا خائفين من كلّ شيء، لكنّهم اطمأنّوا لـ(ام قصي) فهي التي آوتهم وكانت تقدم لهم الطعام والشراب وتسهر على حمايتهم؛ فاصبحوا ينادونها (يمه).

كانت اشتباكات أهالي العلم مع الدواعش مستمرّة وفي ليلة مظلمة حصل اشتباك قويٌّ جداً لكن الرجال رفضوا الاستسلام وتصدّوا بكلّ بسالة على الرغم من اعطاء عدد من الشهداء، وكان من بين الشهداء أحد ابناء أم قصي فقد سقط مرمّلاً بدمه دفاعاً عن الارض والعرض؛ فُفجعت به أمّه وكانت تجوب الدار بالعويل والبكاء كأيّ ثكلى فقدت عزيزها، وقد حضرت النسوة لتعزيتها، فعلمن بأمر الفتية الذين تحتضنهم في دارها وشاع الأمر في جميع أرجاء المدينة.

بعد عدّة اشتباكات سقطت ناحية العلم بيد داعش لكنّ الدواعش اعطوا لأهالي العلم الامان على انّ يبقوا في بيوتهم.

أصبح من الصعب الآن على أمّ قصي حماية الطلبة فأسرعت الى اخراجهم من المدينة وطلبت من اقربائها المساعدة؛ فقام أحد أبناء عمومتها بعمل هويات مزوّرة لهم على أنّها صادرة من جامعة تكريت وقد غيّر اسماءهم الثلاثيّة حتى لا يدل أيّ اسمٍ على المذهب الشيعي ثم احضرت أم قصي سيارة حمل نوع (كيا) وجلبت نساء من اقاربها واجلستهن على اطراف السيارة وجعلت الطلاب في الوسط، وجلست هي وواحد من الطلبة في صدر السيارة، وكانت كلّما تمرّ على سيطرة لداعش تلوّح لهم بيدها وتقول: منصورين إن شاء الله؛ فيفرح الدواعش بهذا الكلام ويقولوا: سيروا..، فيعبرون من دون تفتيش.

كانت السيارة تسير نحو كركوك، فاجتازت ناحية العلم وتوجهت نحو جبال حمرين ومنها إلى الحويّجة ثم منطقة الرياض والرشاد، وكانت كلّ تلك المناطق تحت سيطرة داعش، وبعدها كانت هناك سيطرة لقوات البيشمركة الكرديّة في كركوك؛ وكانوا يدققون في تفتيش كل السيارات التي تريد الدخول وقد طلبوا هوية الشاب الذي يجلس إلى جنب أم قصي، وما أن شاهدوا الهويّة عرفوا: إنّها مزوّرة!

خافت أم قصي من عدم السماح لهم بدخول مدينة كركوك وارجاعهم إلى المناطق التي يتواجد فيها داعش أو الوشاية بهم من قبل الاكراد، فحاولت التخلّص بالحيلة وادّعت أنّها قد اغمي عليها، فصاح السائق لقد ارتفع عندها السكر وارتفع ضغط الدم واريد نقلها إلى اقرب مستشفى وألّا ستموت.

ولمّا سمعت النسوة المتواجدات في السيارة بذلك اخذن يتصايحن واحدثن ضجّة وارتفعت اصواتهن مخاطبات البيشمركة: ألا توجد عندكم رحمة؟ ألستم عراقيون كما نحن؟ إن لم يكن لكم دين فلتكن عندكم انسانيّة؟ هذه امرأة مريضة، ونحن نريد إن نحتمي عندكم خوفاً من الحرب فكيف لا تسمحون لنا بالدخول؟

بعد هذه الضجّة وارتفاع الاصوات تأخر السير وصار خلفهم طابور من السيارات التي تريد الدخول؛ فقال آمر السيطرة كلاماً في اللغة الكردية فهمه جنوده وسمحوا للسيارة بالمرور.

تمت العملية بنجاح ووصل الطلبة إلى مطار كركوك لينطلقوا منه إلى بغداد وكانت أم قصي على اتصال بهم حتى وصولهم إلى محافظاتهم في الوسط والجنوب، بل لم يهدأ لها بال حتى علمت بدخولهم إلى منازلهم.

نجحت المهمّة ورجعت ام قصي ومن معها من النسوة وكانت بانتظارها مهمة أُخرى، فالأيام القادمة ستشهد ناحية العلم عملية بحث عن كل من لم يبايع داعش ولم يقر لهم بالولاء.

ما أن وصلت أم قصي إلى ناحية العلم اجتمعت بأولادها الستة وقالت لهم: لقد فقدتم اخاكم في الدفاع عن الأرض والعرض، ولا اريد ان أفجع بكم، فلنرحل منها قبل ان يقبضوا عليكم ولا تثقوا بالدواعش فليس لهم عهدٌ ولا ميثاق.

بعد يومين انطلقت بسيارة مع اولادها نحو سامراء وفي الطريق اوقفتهم سيطرة لداعش فقالت لهم أم قصي: نريد الذهاب إلى بغداد من أجل اكمال معاملة التقاعد ليتحول راتب زوجي المتوفّى لي.

شكَّ الدواعش بأمرهم متسائلين عن سبب ذهاب كلّ اولادها معها من أجل المعاملة، لكنّها اخرجت لهم أوراقاً رسميّة تؤكّد صحة دعوتها وتكلمت معهم بكلام لطيف؛ فسمحوا لهم بالمرور.

لمّا وصلوا إلى سامراء كانت المدينة تعجّ بآلاف المتطوعين من رجال الحشد الشعبي الذي جاؤوا من محافظات الوسط والجنوب، فسامراء في تلك الايام عبارة عن نقطة انطلاق القطعات المسلّحة نحو عشرات الجبهات لتحرير الاراضي العراقية التي احتلها داعش؛ فقالت أم قصي لأولادها: انظروا ألى ابناء الوسط والجنوب قد هبّوا للدفاع عن ارضكم، فلن أرضى لكم ألّا بالانخراط معهم في جبهات القتال.

على أثر ذلك تطوّع أولادها مع الحشد العشائري الذي يمثل المتطوعين للدفاع عن الوطن من الطائفة السنيّة، وحصل لهم شرف الاشتراك في عمليّة تحرير ناحية العلم مع القوات المشتركة التي تضم الحشد الشعبي والشرطة الاتحاديّة وجهاز مكافحة الارهاب فضلا عن الحشد العشائري.

مباشرةً بعد تحرير العلم عادت أم قصي إلى دارها، وقد كانت طوال تلك المدة حتى على اتصال مع الطلبة الذين آوتهم، وما أن سمعوا بعودتها جاءوا إليها شاكرين فاستقبلتهم وضمتهم إلى حضنها واحداً واحداً وكأنّها أمٌ تحضن أولادها، فرح الجميع بتحرير ناحية العلم وقد غطت الحدث مجموعة من القنوات الفضائيّة ووكالات الانباء، عند ذلك ذاع صيت أم قصي في عموم العراق؛ فأرسلت عليها العتبة الحسينية من أجل تكريمها، وحضرت إلى زيارة الامام الحسين (عليه السلام) وأخيه العباس (عليه السلام) في كربلاء وتم الاحتفاء بها من قبل القائمين على العتبتين المقدستين واهالي كربلاء وتم تكريمها على موقفها النبيل واطلقوا عليها لقب (طوعة العصر) تشبيهاً لها بـ(طوعة) جارية الاشعث بن قيس الكندي التي آوت سفير الامام الحسين (عليه السلام) مسلم بن عقيل (عليه السلام) سنة ستين للهجرة عندما تخلّى عنه أهل الكوفة خوفاً من عبيد الله بن زياد فخذلوه ونصروا يزيد بن معاوية، وحينما لم يجد مسلم بن عقيل (عليه السلام) ناصراً ولا معيناً له هناك ألتجأ إلى دار طوعة؛ فأكرمت مثواه واحسنت ضيافته.

بعد رجوع أم قصي إلى دارها وجّهت عشائر ذي قار لها دعوةً، وحينما وصلت اليهم اجلسوها في الديوان مع شيوخ العشائر والوجهاء وشكروها على موقفها الفريد من نوعه مع ابنائهم الذين انقذتهم من بطش داعش.

ثم وجّهت لها دعوة مماثلة من قبل شيوخ ووجهاء مدينة الكوت في محافظة واسط وقد لبت الدعوة.

وفي حزيران عام الفين وخمسة عشر كرّمت الحكومة العراقية أم قصي بمنحها (وسام الوطن) تثميناً لعملها الوطني وتأكيداً على الوحدة الوطنيّة، فلقد امست رمزاً وطنيّاً بعد انقاذها للشبّان العراقيين الشيعة مع إنّها من الطائفة السنيّة. دون أن تعير اهتماما إلى كونها من الطائفة السنية وهم شباب من الطائفة الشيعية.

ووجّه رئيس الوزراء حيدر العبادي بأن تودّي أم قصي فريضة الحج على نفقة الدولة في ذلك العام.

وفي عام الفين وثمانية عشر كرّمت وزارة الخارجيّة الامريكية الحاجّة عليا خلف صالح (أم قصي) كواحدة من اشجع عشر نساء في العالم؛ فسافرت إلى أمريكا لتنال جائزة (International Women Of Courage Award) (الجائزة العالمية للمرأة الشجاعة) تثميناً لشجاعتها وموقفها البطولي في حماية ارواح خمسة وعشرين منتسباً من مجزرة سبايكر

وجاء التكريم وسط احتفال كبير وتغطية اعلاميّة عالميّة للحدث في العاصمة الامريكيّة واشنطن وقد سلّمت الجوائز السيدة الاولى في امريكا ميلانيا ترامب.

بعد عودة أم قصي من واشنطن صرّحت لوسائل الاعلام المحليّة في العراق قائلة: إنّ أكبر جائزة حصلت عليها هي خمسة وعشرون ولداً لم انجبهم من رحمي ولكنّ حبهم استقر في قلبي وسأبقى على تواصل معهم مدى الحياة.