الناجي الوحيد
القدر الذي لا مهرب منه، هو ما يراقبنا بخفية، يسيِّر تحركاتنا بحيث لا نستطيع أن نلمحه، أتحدث الآن وكأن الأمر يعاد عليَّ في كل مرة، حينما أضع رأسي على الوسادة تتراءى لي وجوه أصدقائي وبنو عمومتي، كنا قد انتمينا جميعا للحشد الشعبي، مجموعة شباب يجمعهم نسب واحد، كنا نتفاخر حينها بأننا من (الزركوش)، عشيرتنا التي نحب ونحن إلى مضاربها في ديالى، نتنقل سوية بين سواتر القتال في مناطق متفرقة من الوطن، ولكن لم نكن نعلم أن النهاية ستكون بمنطقة (مكيشيفة) في صلاح الدين، أتذكر جيدا ذلك النهار الشتائي الثقيل، كانت صعوبة تضاريس تلك المنطقة تزيد من الأمر تعقيدا، البساتين المتلاصقة من جانب، والبيوت المتباعدة جدا من جانب آخر، كان علينا تطهير المنطقة من بعض خلايا داعش المتواجدة هناك، رافقتنا في تلك المهمة قوات من الشرطة الاتحادية كانت مهمتها مسك الأرض بعد أن يتم القضاء على خلايا داعش، وكان إلى جانبا اثنين من رجال الديـــن احدهما بعمــامة سـوداء اسـمه السيــد (حميـد ناصر الشرع) والآخر بعمامة بيضاء وهو الشيخ (تحسين المنصوري) كانا سندا معنويا حقيقيا لنا.
كان دخول المنطقة يستوجب توخي أقصى درجات الحذر، لوجود قناصة الدواعش في كل مكان، كانوا يختبئون بين الأحراش وعلى أسطح المنازل المتفرقة، لذلك تدخلت قوات الشرطة الاتحادية في تقديم الإسناد لنا، تقدمنا على شكل ثلاث دفعات، وكانت كل دفعة تسير بين مدرعتين كبيرتين للشرطة الاتحادية وهو ما يحجب الرؤية عن قناصي داعش، نجحت هذه الخطة ووصلت الدفعة الأولى إلى المكان الذي ستتمركز فيه قبل انطلاق الهجوم، كنت مع الدفعة الأخيرة وهي الثالثة، شاهدت أصحابي من الدفعة الثانية وهم يلتحقون بأصحابهم من الدفعة الأولى وعلى الشاكلة نفسها، تحميهم مدرعتان من الجانبين، وعلى الرغم من أن هذه العملية تمت ببطء شديد إلا أنها ضمنت للجميع السلامة وعدم التعرض لطلقات القناصة المتواجدين هناك.
عادت المدرعتان بعد أن أوصلت المجموعة الأولى والثانية، والآن حان دورنا كي نذهب إلى مكان الهجوم، تبقى معي مجموعة من أقراني في الحشد الشعبي، وبعض قوات الشرطة الاتحادية، وانتظر معنا إلى النهاية كل من السيد (حميد الشرع)، والشيخ (تحسين المنصوري)، حينما نودي إلى الاستعداد لم أكن قد تنبهت لنفسي، إني أعاني الاحتقان منذ ما يقارب الساعة، جهازي البولي يكاد أن ينفجر وعليَّ أن أذهب لدورة المياه، هنا استأذنت من المسؤول المباشر وقلت له:
- لن أتأخر عليكم.. فقط دقائق معدودة كي أفرغ ما في جهازي البولي، فإني أعاني بشدة.
بعدها سمعت صوتا من أحدهم في مجموعتي يقول:
- إنه خائف من الهجوم، لا نحتاج إلى من لا يمتلك الشجاعة معنا..!
كان لزاما عليَّ أن أدافع عن نفسي، فأجبته: أنا لست خائفا أبدا، ولكن ماذا أفعل بحالتي هذه، لا بدَّ أن أقضي حاجتي، هل فهمت؟.
هنا تدخَّل السيد حميد الشرع ليضع حدا للجدال الذي قد يتطور بيني وبين ذلك الشخص، التفت نحوي وقال: إذهب ولكن لا تتأخر.. هيا بسرعة.
ما أن دخلت في المرحاض(الاستراحة) وإذا بي أسمع أصوات اطلاقات نارية قريبة مني جدا، كنت متيقنا أن هناك خطبا أصاب أصحابي، أصواتهم تتعالى: إنه (شفل مفخخ)، انتبهوا.. احذروا.. هيا أطلقوا عليه.. إذن هناك وحش مفخخ يتوجه نحوهم، الدفعة الثالثة التي لم يكتب لها الالتحاق بنظيراتها في الهجوم، ها هي تتعرض لهجوم مباغت، أووو.. يا لهذه المثانة التي لا تفرغ.. كنت أستعجل نفسي بشدة حتى أني شعرت بحرقة كبيرة، بينما أهمُّ بالوقوف بعد أن انتهيت من معا نأتي الأمر، فإذا بصوت انفجار عظيم يهز الارجاء، كنت قد ترنحت كثيرا واصطدمت بالجدار الذي كان خلفي، قمت مرة ثانية، وبسرعة كبيرة ربطت حزامي، كان الجو رماديا ولا أثر لأي شيء هناك، المكان الذي نتمركز فيه تحول إلى ارض هامدة، مسح كل شيء كأن لم يكن، إلى جانب النهر الصغير رأيت العمامتين تركضان نحوي، كانت أذنا الشيخ المنصوري تنزفان بشدة، نتيجة صوت الانفجار، السيد حميد قال لي وهو مذهول مما جرى، ويلهث بشدة:
- لقد كان (شفلاً) لعينا مفخخا، رمينا عليه من كل جانب، حاولنا إيقافه لكن لم نستطع، توجه مباشرة نحو الشباب، هيا أسرع معنا لكي نرى ما حصل لهم.
ركضنا نحن الثلاثة إلى موقع تمركز أصحابنا، فراعنا ما شاهدنا، لقد تداخلت الأجساد مع بعضها، لا وجود لجثة سليمة أبدا، تناثرت الأشلاء إلى أماكن بعيدة جدا عن الموقع، الأيدي والأرجل والرؤوس في كل مكان، كنت أفقد أنفاسي وأنا أصرخ بشدة وأركض في كل جانب مثل مجنون تطارده كوابيسه، التفت نحو السيد والشيخ صرخت: لم تكن إن خمس دقائق، خمس دقائق فقط، خمس دقائق فقط، لماذا لم أرافقهم؟ هؤلاء أبناء عمومتي وأصدقائي، آآآخ.. يا الله، لا أعرفهم الآن، لا أكاد أميز بينهم، ويلاه.. لم يتبق منهم أثر واضح. جلسنا نشاهد تلك الأشلاء ونبكي بحرقة ونصرخ، كانت جثث الشهداء ما زالت متفرقة في ذلك المكان، لا نعلم كيف حدث الأمر، فقط الغبار كان يغطي الاجواء..!