فرحٌ مؤجل
الليلة السابقة لم أرَ مثلها في حياتي، ولم أدخل اختبارا موجعا وقاسيا كالذي واجهته في ساعات الليل التي انقضت، كانت تلك الليلة محملة بمقدار كبير من التحديات، حيث استمرت المناوشات حتى صباح يومنا هذا، ما يحدث هنا في قاطع الصقلاوية بالقرب من مدينة الفلوجة شيء يثير الإعجاب والدهشة ويبعث على الفخر، فقد تمكنت قطعاتنا العسكرية من الزحف على مناطق العدو، وتطهير آخر تحصيناته، أتذكر كلَّ شيء وأنا استقبل صباحي هذا، تلك الشجاعة النادرة التي أظهرها هؤلاء المقاتلون، لم أشاهد مثلها في حياتي.
تفاجأت في الصباح بالعدد الكبير من الجرحى والمصابين من ضمن قاطعنا العسكري، سارعت كي استفهم عن الأمر، قيل لي: إن هناك قناصا من جهة العدو يتمركز بين الأحراش الكثيفة، يتنقل بين البنايات، يستهدفنا منذ الليلة السابقة، وقد تمَّ تحديد مكانه بالضبط وتواجده في هذه الساعة بالضبط، وبعد أن استقر أمرنا على استهدافه من بعد، قفز أحد المقاتلين صارخا: دعوه لي، أنا سأجيبه حيا إلى هنا. ساد الصمت بيننا، بعدها حاولنا ثنيه عن قراره وشرحنا له خطورة الوضع في الجانب الآخر، ولكنه يزداد إصرار أكثر من قبل، والأعجب من ذلك إنه التفت إلى الشباب الذين كانوا إلى جانبه قائلا: من يذهب معي منكم وأزوجه إحدى بناتي..!.
لا أستطيع تخيِّل مقدار الدهشة والحيرة التي وقعت بها وأنا أشاهد هذا المقاتل المدعو (كاظم فالح رخيص)، والملقب (أبو عبرة)، تقدَّم أحد الشباب، كان بهي الطلَّة، سيماه تشير إلى إقدام لا تراجع معه، ألتفت إلى أبي عبرة، قائلا:
- أبشِر، فأنا معك في هذه المهمة، لنذهب حالا كي نأتي به حيًّا إلى هنا.
فرح (أبو عبرة) كثيرا بشجاعة هذا الشاب واندفاعه، جهزا نفسيهما جيدا، قاما بالتسلُّلِ إلى حيث يتواجد ذلك القنَّاص. الوقت يمرُّ ونحن ننتظر (أبو عبرة) وصاحبه، لقد تسللا خلسة بين تلك الأحراش للوصول إلى البناية التي يتمركز عليها ذلك القناص، قطعا مسافة طويلة، يراوحون بمسيرهم حسب ما تتطلبه الأرض التي أمامهم، انقطع صوتهما عن بعض، استعانوا بالإشارة فيما بينهما، كل منهما كان يضع مسافة مع صاحبه حتى يؤمنوا لنفسيهما غطاءً كاملا، كانت البناية التي يستلقي عليها ذلك القناص تتمتع بمركز استراتيجي، فهي تقع قريبة من تقاطع طرق رئيسة، البناية التي لم يكتمل بناءها كانت تواجهنا مباشرة، ذلك القناص كان ذكيا بشكل لا يقبل الشك حين تخير مكانه في ذلك المكان، ما اضطر أبو عبرة وصاحبه على الالتفاف لمسافة طويلة كي لا يواجهوا عدسة القناص مباشرة، تسلقوا بعض الركام الذي تجمع بظهر البناية، وقف أبو عبرة مواجها باب السلَّم الخلفي للبناية، نادى على صاحبه فصعد قبله، سارا بحذر تام، أحدهما يصوب بندقيته للأعلى والأخر يصوبها إلى أسفل السلم، اقتربا من السطح، كان القناص مستلقي على بطنه، يغطي جسده بغطاء مموه، حتى لا ترصده الطائرات، خطوة فخطوة اقتربا منه، وحينما أدركا أنهما سيلامسانه صوبا سلاحيهما نحوه، صرخا به أن يتخلى عن سلاحه، كان القناص مشدوها بشدة في تلك اللحظة، كيف استطاعا الوصول إليه..؟ لم يكن أمامه من خيار سوى أن ينقاد لأوامرهما، رمياه على بطنه وأوثقا يديه، أبو عبرة أمسكه من رقبته، وسار به بهدوء نحو المخرج المؤدي للسلَّم، صاحبه حمل سلاح القناص، تنكَّبه وسار خلفهما، قطعا الطريق بسرعة عائدان نحو المقر.
كان الوقت يمرُّ بصعوبة بالغة، ما الذي حدث معهما لا نعلم بالضبط؟ وبينما كنا منشغلين كلٌّ في مكانه يفكِّر، إذا بأحد المقاتلين يصرخ، لقد رآهما:
- ها هم قادمون.. لقد اصطادوه، وجاؤوا به مقيدا.. حياهم الله.
قفزنا من أماكننا فرحين، استقبَلْنا (أبو عبرة) وصاحبه بالأهازيج، رحنا ننشد معهم الأهازيج فرحا بمقدمهم وانتصارهم، في تلك اللحظة ركزت نظري نحو (أبو عبرة) رأيت بوجهه فرحا لم أشاهده من قبل على أي شخص.
أوفى (أبو عبرة) بوعده للشاب، ففي أول إجازة لهما بعد تلك الحادثة تمَّ عقد قران الشاب على إحدى بناته، وتمَّ تحديد موعد الزواج في الإجازة القادمة، حينها تحدثت مع (أبو عبرة)، فقال لي:
- شيخنا، أنا والد لسبعة بنات ولا ولد عندي، وكنت قد رجوت الله أن يرزقني ولدا، وقد عوضني بهذا الشاب الشجاع، شيخنا، أنا فرحٌ به جدا.
تواصلت مع الأخوة في ذلك القاطع، إذ تمَّ الطلب من بعضهم التحرك نحو مدينة الفلوجة، كان (أبو عبرة) ضمن المنتقلين إلى هناك، كانت المعارك على أشدها مع العدو، فقد كانت هذه المدينة ملاذا لأعتى مقاتلي (داعش) وأكثرهم إجراما؛ لذلك كانت المعارك لا تهدأ، متواصلة ليلا نهارا، بينما (أبو عبرة) مع إخوته يخوض غمار تلك الحرب، سمعنا بخبره ينتشر كالنار في الهشيم، تهامس الجنود فيما بينهم: لقد استشهد أبو عبرة، رحت أستفسر عن الأمر، إذ قيل لي: أنه وقع شهيدا في إحدى معارك الفلوجة، لقد أصيب بطلقة قنص أردته على الحال.
بكيت كثيرا على شجاعته ومواقفه، الشاب، خطيب ابنته أسرع نحو مقر اللواء في الفلوجة، كي يعرف ما الذي حدث، لم تكتمل فرحة (أبو عبرة) بزواجه، شاهدت الجميع يحنون رؤوسهم وهم ينشجون ويبكون بحرقة، (أبو عبرة) كان مثالا لما لكلمة الشجاعة من معنى.