قربانٌ للشهادة
كم من القرابين على هذا البلد أن يقدِّمها من أبنائه، كم من التضحيات التي تقصف بها أعمار شبابٍ لم يكونوا سوى حالمين بوطن يمارسون فيه حياتهم ومغامراتهم بفرح كبير، تقتضي فكرة القربان أن يكون هناك نذر معين لم يوف به من نذره، هل نذر أسلافنا نذورهم وذهبوا، وصار علينا أن نوفي بكل الأعباء الجسيمة التي تستند على كاهلنا..!
من داخل المغتسل، تعالت الأصوات بالبكاء والنحيب، وهم يواجهون حقيبة كانت الدماء الجافة تغطيها تماما، حاولت إخراجهم من المكان كي أتكفل تعفيرها وتجهيزها لتنقل بعد ذلك لمثواها الأخير، لكنَّ أحدهم صرخ عاليا: إنه ضرغام.. ها هو ضرغام، إنه في تلك الحقيبة.. ويلاه، أريد رؤيته.. دعوني أرى وجهه إن بقيت له ملامح، ثمَّ انهار على الأرض مواصلا بكاءه بحرقة.
فتحت الحقيبة فهالني منظرها، أشلاء مجمَّعة كنت أميزها بصعوبة، بينما استجمعت قواي كي أقوم بتجهيزها، تذكرت صاحب هذه الجثة المتقطعة، إنه النقيب (ضرغام) من الجيش، كان يتنقل بين وحدته العسكرية، وقواطع المتطوعين من الحشد الشعبي ليخدم في موكب الدعم اللوجستي أثناء تواجده هناك، في ذلك الموكب الذي كان يخدم فيه بعضا من أخوال النقيب (ضرغام)، كان يتردد كثيرا علينا، فما كان مني إلا أن استفهمت من خاله الشيخ (حيدر الكوفي) عن سبب مجيء (ضرغام) معنا وهو بالأساس يخدم في وحدته العسكرية القريبة منا؟
أجابني شيخ حيدر قائلا: إنه ينتهز أيَّة فرصة في وحدته العسكرية، إجازة زمنية، أو استراحة، أو ما شابه ذلك؛ كي يلتحق بقافلة الدفاع الكفائي، شيخنا إنه كما تعرف نقيب في الجيش العراقي، وهو خبير بتفكيك المتفجرات كذلك، لهذا فهو يستعين بخبرته ليساعدنا إن حدث أي طارئ أو تعرضنا لأي هجوم. أعجبتني شجاعة هذا النقيب وما سمعته من خاله، كان شابا يمتلئ عنفوانا وهمة، شاهدته في أكثر من مرة وهو يسهم في حلِّ بعض المشكلات التي تواجه قطعات المجاهدين، وأكثر تلك المشاكل وأخطرها هي تفكيك العبوات الناسفة التي كانت مزروعة في كل مكان.
كنت أستمع إلى أخباره بين الحين والآخر، وهو لا زال يتنقل بين وحدته العسكرية وبين مواقعنا في تلك الجبهة، وفي يوم السادس عشر من شهر صفر، وقد تبقى أربعة أيام على موعد الزيارة الأربعينية، كان النقيب (ضرغام) مباشرا في دوامه في الجيش العراقي، كان قاطع مسؤوليته مهتم بأمر المتفجرات والتعامل مع العبوات الناسفة، كي يؤمِّنوا عبورا سالكا للقادمين من ورائهم، كانت هناك عبوة ناسفة يصعب التعامل معها، في تلك المعارك تصادفك العديد من الحيل العسكرية التي يقدم عليها العدو حتى تصبح من الصعب تصديقها.
العبوات الناسفة كانت على درجة من التنوع والتجهيز بحيث يصعب علينا معرفتها وكشفها، وهو ما يتطلب منا دائما الاستعانة بخبراء الجهد الهندسي كي يفككوها، العبوة التي تعامل معها النقيب ضرغام كانت من هذا النوع، إذ أعطى أوامره لجنوده بعدم التقرب منها مطلقا، وتقدَّم هو نحوها، صلَّى ركعتين ثمَّ أخرج عدته وشرع بتفكيك أجزائها: الأحمر مع الأحمر، الأزرق مع البني، لا.. لا الأزرق ليس له وصلة أخرى، يا لهذه العبوة اللعينة، كان النقيب يحدِّث نفسه، يستذكر كلَّ ما تعلمه في دورات الجهد الهندسي، كانت العبوة مرتبطة بمجموعة من الأسلاك التي تنتهي عند صاعق صغير، يخرج منه سلك رفيع نحو قنينة غاز، العرق يتصبب منه، حاول أن يجرب طريقة تبعده عن الوصول إلى ذلك الصاعق؛ كي يتجنب الانفجار، لحظات ترقب وصل فيها الخوف أعلى درجاته، من مكاننا نغلي ترقبا ونحن نشاهد النقيب ضرغام وهو عاكف يحاول فكَّ شفرة تلك العبوة، وبينما نحن كذلك، وإذا بصوت انفجار عظيم يصك أسماعنا، وتهتز الأرض من تحتنا، ترمينا مسافات بعيدة، انقشع العصف كاشفا عن انفجار عظيم بالموقع الذي كان يتواجد فيه النقيب، أدركنا أن العبوة انفجرت عليه، ركضنا مسرعين نحوه، كانت آثار الانفجار عظيمة جدا، فتحة هائلة خلفها على الطريق، كل شيء متناثر، كانت جثة النقيب هي الأخرى قد تناثرت في أرجاء المكان، لم يتبق منه عضوٌ سليم.
ها أنا الآن أواجه جثته في هذا المغتسل، نجحت في إخراج أهله وأصدقائه بصعوبة بالغة؛ كي لا يرعبهم منظر جثته المتقطعة، رجل واحد بقي في مكانه، أبى أن أخرجه، قال لي: شيخنا أنا والده، وأخذ يبكي بحرقة، أريد أن أراه بالله عليك يا شيخنا. تركته معنا، وبعد أن قمت بتجهيز الجثمان وأكملت لفَّه بقطع الكفن، تقدَّم والده، وضع يده أسفل رأس ولده، بكى متأسفا، نظر إلى السماء وقال: اللهم تقبل منا هذا القربان.