مديح الرشى

{ المصدر : الموسوعة التوثيقية الكبرى لفتوى الدفاع عن عراق المقدسات }

دائما كنا نسمع أن البعض يدفع عن نفسه خطر الموت بالعطاء والهبات، وذلك كي يتأخروا قليلا عن الالتحاق بالقوات العسكرية، هنا كان لزاما عليهم إرضاء بطون وجيوب المسؤولين ليغضوا عنهم الطرف ولا يشيروا إلى أسمائهم بالدفعات التي تساق نحو المحرقة، ولكن ما الذي تغيَّر بعد ذلك لتعطى الهبات والهدايا من أجل الذهاب للمعركة لا التخلف عنها، ما يحصل مع الشباب المتطوعين في الحشد الشعبي أمر لا يصدقه العقل، تنافس غريب وزحام شديد على من يذهب منهم أولا نحو المعارك، والمشاركة بالقتال..!

وأنا أفكر بهذا الأمر قبل الاستعداد لهجوم مرتقب، رنَّ جرس هاتفي المحمول، كان الاسم معرّفا، إنه (حسام) شاب عشريني من فصيل آخر بالحشد الشعبي، تربطني به وبأسرته صلة قرابة وصداقة، أتذكر في هذه اللحظات أنه اتصل عليَّ ذات مرةٍ وأخبرني بمشكلة حدثت معه، إنَّ قائده الميداني لم يستدعه لمعركة (الحويجة)، وهو ما جعله غاضبا بشدة، وصل الأمر به إلى حدِّ البكاء، أتمنى أن لا يكون الأمر مشابها لما حدث في ذلك اليوم:

- ألو السلام عليكم.. تفضل حسام أهلا وسهلا بك.

- أبا صفاء كيف حالك يا عم، أتمنى أن تكون بخير؟

- الحمد لله .. كيف حالك أنت، وجماعتك كيف هي أمورهم؟

- لا أريد أن أكذب عليك يا عم.. الحق أني لست بخير تماما.

          هنا كنت أفكِّر في أمر محدد، إن خطبا ما قد حدث لحسام، لا بدَّ أن يكون أمرا خطيرا، ولكن هل من الممكن أن يكون كما في آخر مرّة؟

- خيرا يا حسام، أقلقني اتصالك كثيرا، تكلَّم يا رجل.. ما الذي حدث معك؟

- لا تقلق يا عم لم يحدث شيء، ولكن هناك مشكلة أمر بها في الوقت الحالي، أنت تعرف قائدنا الميداني (أبو زيد)، هل يقبل ضميرك أني في كل مرةٍ لاشترك معهم في القتال، في ذلك اليوم توجهوا للحويجة وأنت تعرف الأمر، وهذه المرة يرومون دخول (القائم) فقط هو وجماعته، وأمرني بالبقاء في المقر، أرجوك حاول أن تجد لي حلًّا يا عم، لماذا لا يثق بي هذا الرجل، ألست أكفوءا لهذه المهمة..؟

تبسَّمت قليلا، ما زال يتحدَّث على الجوال، نعم أشعر بدموعه تنهمر، أعرف ذلك من رنين النشيج الذي يتسلل إليّ، كما أنني أعرف حساما جيدا، دائم الاندفاع، يحاول أن يشترك في كل المعارك، يتمنى لو أن لديه جناحين كي يحلِّق بهما إلى أية نقطة في هذه المعارك: «هوِّن عليك يا حسام، سأتصل الآن بـ (أبي زيد)، وأستفسر منه عن عدم التحاقك معه في هذه المعركة».

أنهيت الاتصال مع حسام وأنا أفكِّر مع نفسي كيف سأحدِّث قائده المباشر (أبو زيد) بامره، أنا أعلم أن في الأمر حرجا كبيرا، ولكن ما العمل، تردني الكثير من الاتصالات المشابهة، الكل يحاول أن يفعِّل صداقاته وعلاقاته من أجل المشاركة بأجر الجهاد ضد الدواعش.

أخرجت رقم (أبا زيد) من قائمة الأسماء، الرجل صديق مقرَّب، ولكن أعلم جيدا أن تأثيري عليه ليس أكبر من المصلحة العامة التي يراها هو، لذلك فقد تصالحت مع نفسي لأي ردٍّ يصدر منه:

- ألو.. السلام عليكم (أبو زيد) الحبيب، كيف حالك يا أخي؟

- وعليكم السلام حياك الله (أبو صفاء) نحن والحمد لله بخير، كيف حالكم أنتم، تفضل يا أخي.

- أعلم جيدا أنك مشغول في هذه اللحظات، ولكن هناك أمر أحببت أن أطرحه عليك لو سمحت لي.

- قبل أن تكمل يا (أبو صفاء)، أعتقد أن حساما قد اتصل بك أليس كذلك، هذا الشاب المراوغ، يتحدَّث وهو يضحك بصوت عالٍ.

بادلته الضحك أيضا، فأنا و(أبو زيد) نعلم جيدا أن حساما لن يستقر حتى يشارك في المعركة دائما.

- اسمع يا أخي (أبو صفاء) أنا أعلم مدى شجاعة حسام وبطولته جيدا، وهو ملتزم جدا بما يؤمر به، ولكنك تعلم كذلك أن لكل معركة ظروفها الخاصة، وسلاحها المحدد، وأشخاصها الذين يؤدون دورهم بصورة دقيقة، وحسام لا وجود له بينهم هذه المرَّة؛ لأنها عملية خاطفة جدا، أعتذر منك يا (أبا صفاء) لا أستطيع أن أزجَّ بكل المقاتلين في معركة واحدة.

انتهى الاتصال مع (أبا زيد) ولا بدَّ عليَّ من أن أنقل لحسام ما جرى، أووو .. كم هي متعبة هذه المحاولات ومحرجة أيضا، ولكن ماذا نفعل مع هؤلاء الشباب، اندفاعهم أقوى من أي عذرٍ نقدِّمه إليهم، حماستهم من أجل وطنهم مثل كرة نارٍ ملتهبة لا تعترف بأي حاجزٍ يقف في طريقها، ولكن ما العمل لا بدَّ أن أنقل له ما جرى، اتصلت على حسام وأخبرته بما قال (أبو زيد)، تقبَّل الأمر على مضض، كنت أتحدث وهو ينشج من البكاء، في النهاية قال لي: «لا بأس، فالقادم أفضل، وسأثبت لك أنت و(أبو زيد) صاحبك أني جدير بكل قتال، وأني الصقر الذي سيفترس الدواعش أينما ذهبوا وارتحلوا».