وفيٌّ يجلبُ الساقَ ويرحل
قادني القدر لأكون مسؤولا عن لواء كامل من المقاتلين، كانوا يرون في وجهي بعض سمات أهلهم، الكل كان يتشبث بي، يقولون لي: سيد حميد أنت تشبه شخصا نعرفه ولكن ليس بمقدورنا تذكره أو تشخيصه بالضبط، كنت أبتسم نتيجة ما أسمع، ولكني كنت أخاف عليهم بشدة، هؤلاء الذين ما زالوا في مقتبل العمر، وهم يخوضون حربا لا هوادة فيها ضد الدواعش، سمِّي اللواء الذي كنت مسؤولا مباشرا عنه باسم (لواء أنصار المرجعية). هذه المرة تمَّ تكليفنا بمهمة مسك ساتر ترابي طويل يفصل بيننا وبين الدواعش، تحدثت مع أصحابي بضرورة توخي الحيطة والحذر من التعرضات المفاجئة التي قد يشنها العدو كي يستعيد سيطرته على هذا الساتر الذي انتزعناه منه. مسافة الموت كانت تقترب بيننا وبين الطرف الآخر لتصل في بعض الأحيان لأقل من (100) متر، وهو ما كان يبعث فيَّ قلقا متزايدا من شنهم لغارات مفاجئة أو بدئهم بقصف قريب قد يصيب أحد أفرادي بأي سوء محتمل.
تصاعدت حدة القلق عندي بعد اكتشافي حركات مريبة تحدث على الجانب الآخر من الساتر وهو ما أدى بالفعل لحصول مواجهات تستمر في بعض الأحيان وتتقاطع في أحيان أخر، كنت أرى في أفرادي المسؤول عنهم أبطالا لم تنجب الأرض مثلهم، أشاهد بأسهم، وأفتخر باندفاعهم وعدم خوفهم، كانوا مثل زمرة أسود ملكية، يهجمون في آن واحد ويعودون في آن معا، لكنهم رغم ذلك لم يعصوا أوامري، أحدهم قال لي ذات مرة: نحن نرى أنفسنا بكَ سيد حميد الياسري، نطالبك بالدعاء وخطط الهجوم، والباقي اتركه لنا. ما أعظم هذه الثقة، التي تزيد كاهلي ثقلا وأرقا عليهم وعلى أرواحهم..!.
العدو في الجانب الآخر بات شبه متأكد من هزيمته، ومن وصول أشبالي نحو أوكاره وتدميرها عاجلا أو آجلا، لذلك بات ينوع في أساليبه القتالية، حتى ما عدنا نميز أيها يختار ونحن نواجهه، أساليبه التي يعتمد فيها على الغدر والخداع وعدم المواجهة المباشرة الحقيقية، فالمفخخات متنوعة جدا، كل شيء قابل للتفخيخ، السيارات، البيوت، الأفراد، الحيوانات، كلها تملأ بالمتفجرات وترسل نحونا، كنا متيقظين جدا. لكني اكتشفت شيئا مهما هذه المرة، وهو إن أقسى ما يواجهنا ويثير حماستنا وغضبنا، هو وجود رايات الدواعش السوداء، فنركض إليها مهرولين كي ننكسها مباشرة، ولكنهم الآن يفخخون تلك الرايات أو ما تنتصب عليه، بعد أن علمت بتلك الحيلة كان لا بدَّ من أن أعمم هذا الأمر على أفرادي، تواصلت مع آمري القطعات المباشرين وأخبرتهم بوجوب توخي الحذر من الرايات التي ينصبها الدواعش، فهي مفخخة، فإذا ما أراد أحد المقاتلين أن ينتزعها من مكانها تفجرت حالا وقتلته.
تواصلت في بث هذه التنبيهات وأوجبت على الجميع أن لا يستهزئ بالأوامر حفاظا على سلامة الجميع، أبلغت فصيل (الجهد الهندسي) وفصيل (القناصة) فقط بالتعامل مع تلك الرايات، فإما أن تفكَّك أو أن تُقنَص من بعيد فتتهاوى. كانت المنطقة التي فيها الساتر الذي نسيطر عليه عبارة عن صحراء قاحلة لا وجود لأي حياة فيها، لا بشر ولا شجر، فقط نحن والعدو يقابلنا، حتى الحيوانات الأليفة منها والوحشية التي تستوطن تلك المنطقة النائية كانت قد غادرت منذ وقت طويل نتيجة قسوة المكان الذي تحول إلى ساحة حرب وقصف متبادل.
في صباح يوم تفاجأنا بأن العدو قد ترك عددا من الرايات الداعشية كانت منتشرة بمكان قريب على مواضعنا. مباشرة أبلغت الجميع بعدم التصرف مع هذه الرايات حتى تأتي فرقة الهندسة العسكرية حتى تخلصنا منها، لأني كنت شبه متأكد أنها مفخخة، كانت الرايات ترفرف بشدة، الاعين تنظر لها بشزرٍ كبير، كنت غير متيقن من قدرتي على مواجهة كل هذا الغضب الذي يصدر من جنودي، هل سأستطيع الحفاظ على الموقف إلى أن يأتي أصحاب الجهد الهندسي. بين انتظار أقضيه مع جنودي محاولا الحد من اندفاعهم تجاه تلك الرايات وبين أن يتم انزالها مرَّ الوقت عصيبا جدا، التفت لهم ورحت أكلمهم قلت لهم: لماذا لا تحاولون اسقاط هذه الرايات بقذائف الهاون؟، أو أن تطلقوا عليها الرصاص حتى تنفسوا عما في داخلكم من غضب، كان جوابهم بالرفض القاطع، سيدنا لا نريد لهم أن يستهزئوا بنا حينما يرونا نطلق على قطع قماش لا معنى لها، نريد أن ننزلها بأيدينا ونصورها وننكسها حتى يرون إننا سنجتثهم من الأرض و نجتث راياتهم، سكت حينها متيقنا أن الموقف أصعب من أن أتعامل معه، كان معنا أحد المجاهدين مكلف بالمراقبة على كاميرات المراقبة، كان من مدينة الناصرية، تلك المدينة التي ترتفع عن بقية أرض الكون وهي تفتخر بشجاعة رجالاتها، اندفع ذلك الرجل نحو إحدى الرايات متجاهلا كلامي عن خطورة الأمر، تهيأت له الراية مثل عدو يتراقص أمامه، فما كان منه إلا أن تسلق عمود الكهرباء الذي نصبت عليه إحدى تلك الرايات، وحينما أصبح قريبا منها، صرخ عاليا، وشدها من مكانها، ما أن اقتلعها من مكانها، حتى دوي انفجار عظيم، كنا نشاهد ما يحدث باندهاش عظيم.
طارت الراية نحو الأرض ولكن المجاهد طار هو الآخر إلى مكان بعيد، تيقنت أنه لن ينجو مما حل به، ركضنا نحوه، ولكننا لم نستطع الوصول إليه لأنه وقع في الجانب الآخر القريب من العدو، حينها أعطيت أوامري وكان برفقتي قائد من الشرطة الاتحادية، بأن تكون هناك عملية نوعية لانتشال جثته وعدم تركها للدواعش فهم إن علموا بوجودها سيمثلون بها كما فعلوا في كثير من تلك المواقف، وصل المقاتلون إلى جثة زميلهم، لكنهم وجدوا أن ساق المجاهد قد بترت، بحثوا عنها كثيرا لكنهم لم يجدوا لها أثرا، عادوا بالجثة مبتورة الساق، أخبروني بما حدث، استفسرت منهم، هل بحثوا عنها جيدا؟، أخبروني أنهم لم يتركوا مكانا قرب الجثة إلا وبحثوا فيه عن هذه الساق ولم يجدوها.
شيعنا ذلك الشهيد، وخرجنا نودعه إلى حيث أهله في الناصرية، في ضحى اليوم التالي تنبهنا إلى صوت كلب قريب من الساتر، كان نباحه يتعالى، يصل إلى حيث المقاتلين، يهز ذيله وينبح ثم يتوجه إلى المكان الذي قدم منه، كررها مرارا، إلى أن أبلغني المقاتلون ما يشاهدونه، حينما رأيته قلت في نفسي من أين خرج هذا الكلب؟، وما الذي جاء به إلينا، منذ أيام عديدة ونحن نرابط على هذا الساتر لم نسمع أو نرَ أي حيوان هنا، كان الكلب يركض نحونا بسرعة كبيرة، ينبح عاليا، يهز ذيله، وهو يشير برأسه نحو مكان محدد، بعدها يذهب ببطء إلى ذلك المكان، ويرجع ليعيد الكرة ثانيا، قلت لهم: إن لدى هذا الكلب رسالة معينة، لا بدَّمن أن نتبعه حتى نرى ما وراءه، ولكن بحذر شديد خوفا من رصد الدواعش لنا، كلفت مجموعة من المجاهدين بالذهاب خلف الكلب ومعرفة ما وراءه، ذهب خلفه المقاتلون، وصلوا مع الكلب إلى مكان بعيد، وقف والتفت بأسه نحوهم كأنه يشير لهم بالتوقف، فتوقفوا، راح يمشي بتمهل، إلى أن التقط شيئا من المكان، وعاد يمشي ببطء شديد، يراقبه المقاتلون من بعيد، كان يقف قليلا كي يستريح ثم يلتقط ذلك الشيء، الذي يبدو ثقيلا، بفمه ثم يتحرك ثانية، ما أن وصل قريبا من المقاتلين حتى وضعه واختفى بعيدا، ركض المقاتلون تجاه ذلك الشيء وإذا بهم يتجمدون بمكانهم، كادت أعينهم أن تغادر محاجرها مما رأوا، لقد شاهدوا ساق زميلهم الذي انفجر عليه عمود الكهرباء وهو يحاول إنزال راية الدواعش.
رجع أعضاء المجموعة نحوي يتصارخون: سيدنا لقد دلَّنا الكلب على ساق صاحبنا الشهيد، سيدنا لقد وجدنا الساق التي نبحث عنها، هنا لم أصدق الأمر، كنت مندهشا مثلهم، التقطت جهاز الموبايل بسرعة كبيرة، اتصلت بأهل الشهيد في الناصرية، قلت لهم: أين أنتم الآن؟، أخبروني أنهم في مقبرة وادي السلام في النجف. قلت لهم لا تدفنوا الجثة، فقد وجدنا الساق المبتورة، وهي في طريقها إليكم الآن، حتى تدفنوا جثة الشهيد كاملة.
حاولتُ العثور على ذلك الكلب، أخبرتُ الجميع إن كان واحدا منهم قد لمحه أو سمع صوته، لكنهم أكدوا أنهم لم يشاهدوا له أثرا بعد تلك الحادثة، لقد اختفى بوفائه، طيلة ذلك الوقت الذي رابطتُ فيه مع المجاهدين في ذلك المكان لم أعثر له على أثر، كيف علم ذلك الكلب أن هذه الساق تنتمي لجثة شهيد من جبهتنا وليست لأحد الدواعش؟، كيف استطاع أن يجلبها إلينا، الأخطر من ذلك لماذا لم يأكلها إذ قد يكون جائعا بسبب قلة الطعام في تلك الصحراء؟، كل تلك الأسئلة كانت تدور في ذهني، لن أصدق هذه الحكاية لولا أني شاهدتها بعيني، هل كان ما مررت به حلم، لا قطعا بل إن كثيرا من المقاتلين كانوا شاهدين على ذلك الموقف، حينها أدركت ان يد الله تعالى تتجسد لنا في كل مرةٍ كي ترشدنا وتكون عونا لنا في هذه الحرب.