للأطفال جهادهم الخاص

{ المصدر : الموسوعة التوثيقية الكبرى لفتوى الدفاع عن عراق المقدسات }

الخوف الذي تستشعره أم هيثم لم يكن يخالجها من قبل، تنتظر طفليها (هيثم ومرتضى) وهما يعودان من المدرسة كل يوم بشغف كبير، لكن الحال تبدَّلت منذ ما يقارب الأسبوع، يأتيان جائعين جدا، يهرولان نحو المطبخ مباشرة، افتقدا ذلك الهدوء الذي كانا عليه قبل هذه المدة، تراهما يلهثان كأنهما كانا يركضان في سبيل الوصول إلى البيت بسرعة كبيرة، الأمهات تلاحظ كل شيء فينا وإن لم نستشعره نحن. ما الذي يحدث مع ولديَّ في المدرسة؟، أنا أعلم أن أباهما يعطيهما مصروفهما اليومي، لا يحتاجان لشيء، الحانوت قريب منهما، وبمصروفهما يستطيعان أن يشتريا ما يسد رمقهما في المدرسة، ما الذي حدث الآن؟ هل يتعرضان للابتزاز من الطلبة الآخرين، فيأخذوا منهما المصروف اليومي ويظلا  جائعَين إلى نهاية الدوام؟، كل تلك الأسئلة كانت تدور في خلدها وتثير قلق الوالدة بشكل لا يقبل الشك.

في المساء لاحظ الوالد أن زوجه ليست على ما يرام، استفسر منها عن سبب سرحانها الدائم، وعن قلقها الذي تكشفه ملامح وجهها، منذ أسبوع وأنا أراكِ لست على ما يرام، ما الذي حدث؟، هل هناك شيء معين تخفيه عني يا أم هيثم، أخبريني أرجوك فقد بدأت أقلق عليكِ؟. أخبرته بما يحدث لأطفاله وكيف يعودون جائعين من المدرسة؟ علما إنهما لم يكونا هكذا قبل هذه المدة. عدَّل الأب من جلسته وهو يستمع لكلام زوجته، ثم أردف قائلا:

- ما هو السبب من وجهة نظركِ أنتِ؟.

- لا أعلم، ولكن قد يكونا يتعرضان للابتزاز من بقية الطلبة في المدرسة، أو أنهما يضيعان مصروفهما اليومي على شيء لا نعرفه، عليكَ أن تعرف منهما ماذا يجري نادى الأب على ولديه، وراح يسألهما عن دروسهما وكيف هي أيام الدراسة معهما؟ كانا يجيبانه بكل زهو أنهما متفوقان، يتنافسان مع بعضهما البعض، حينها قرر الوالد أن يسأل ابنه الكبير هيثم، قال له:

- هل هناك شيء يضايقكما في المدرسة يا هيثم؟، قل لي يا بني لا تخف.

- لا يا أبي كل شيء على ما يرام لا يوجد شيء، المعلمون يحبوني، وأصحابي أيضا، أشعر بالسعادة هناك كثيرا لا يوجد شيء.

- إذن اسمع مني يا هيثم، أمك تقول: انك تأتي ومرتضى ومنذ

ما يقارب الأسبوع جائعين من المدرسة، تركضان نحو المطبخ أو الثلاجة وتناديان بالغداء فورا، وهو ما لم يصدر منكما سابقا لأني أدفع لكما مصروفا يكفيكما لكي تشتروا من

الحانوت، ما الذي حدث يا هيثم؟ هل تتعرضان لمضايقات معينة، هل هناك من يحاول أن يأخذ مصروفكما غصبا؟.

هنا جمد هيثم بمكانه لم ينطق بشيء، كانت عيناه جاحظتين وجسده يرتعش كأن سره قد انفضح، أفلت من بين يدي والده، وأسرع نحو غرفته، كان الأب يتبادل نظرات الحيرة مع زوجته، قرر استدعاء ابنه الأصغر مرتضى، حاول أن يفهم منه بعض الشيء، لكنه لم يستطع، بكى مرتضى وهرب نحو غرفته هو الآخر. الوالد زادت شكوكه، وتصاعد قلقه على ولديه، لذلك قرر أن يذهب إلى المدرسة كي يعرف ما الذي يجري مع ولديه هناك.

يقف مدير المدرسة على قدميه، هو يعرف (أبو هيثم) من خلال المدرسة، المدير يحترم هذا الرجل جدا؛ نظرا لاهتمامه بطفليه، هو يتابعهما دائما، ويشدد على أن يكونا مهذبين ومتفوقين بدروسهما دائما، استقبله مدير المدرسة وهو يبتسم بوجهه:

- أهلا بك يا أبا هيثم، استرح، مرحبا بك وشكرا لتواصلك الدائم مع إدارة المدرسة من أجل ولديكَ الرائعين، أشكر تربيتك لهما من كل قلبي.

- شكرا لك حضرة المدير، ممتن لك لهذا الاستقبال الرائع، أتمنى أن أطبق كل ما توصوني به من أجل هذين الولدين. ولكن مجيئي اليوم لأمر مهم ولا أخفيكَ أني قلق جدا عليهما.

فوجئ  المدير وهو ينتظر أن يحدثه أبو هيثم عما يقلقه، راح ينظر له بترقب كبير، أرجوك أخبرني ما الذي حدث مع ولديك؟، فعلى حدِّ علمي أنهما لا يعانيان من أي شيء حالهما كباقي التلاميذ وأنا أراقبهم بشدة كما تعرف.

- أعتذر منكَ حضرة المدير، ولكن دعني أقص لك ما يحدث مع ولديَّ منذ ما يقارب الأسبوع، وهو ما تنبهت له زوجتي، وحاولت أن أصل لحقيقة ما يجري معهما لكن من دون جدوى.

راح أبو هيثم يحكي لمدير المدرسة ما يحدث مع ولديه. المدير يفرك على جبهته براحة يده، يستغرب مما يسمعه من الوالد، لماذا يحدث معهما هذا الشيء؟ لا أعلم أن أحدا يسرق مصروفهما اليومي، أو أنه يبتزهما بشيء اطلاقا، انتظرني لحظة، سأستدعيهما حالا لنعرف ما يحدث معهما.

حضر هيثم مع أخيه الأصغر مرتضى، المدير خلف مكتبه، الوالد يجلس قريبا منه، المعلمون كل في مكانه، والطفلان واقفان لا يعلمان ما الذي حدث، سوى أنهما راحا ينظران لوالدهما بخوف شديد التفت المدير إلى هيثم وطلب أن يقترب منه، اقترب هيثم منه راح المدير يركز نظره على عيني الطفل، قال له: الآن أريد أن أعرف ما الذي يحدث معك ومع أخيك، لماذا لا أشاهدكما تدخلان الحانوت - مثلما كنتما سابقا - أين تذهبان بمصروفكما اليومي؟ أجبني حالا يا بني نحن نريد أن نساعدكما إن كنتما واقعان في مشكلة مع أحد الطلبة المشاغبين.

التفت هيثم نحو أخيه الأصغر مرتضى، ثم وجه كلامه للمدير:

- أستاذ، هل تعرف صديقي خضير، إنه في شعبتي نفسها.

- نعم أعرفه، لقد فقد والده منذ مدة قصيرة رحمه الله، راح شهيدا من أجل الوطن، ولكن قل لي ما به، وما علاقته بحديثنا؟.

- أستاذ، كما قلتَ أنتَ لقد فقد خضير والده  كان مقاتلا في الحشد الشعبي، خضير وأخوه كرار معنا في نفس المدرسة، كنا نذهب جميعنا للحانوت قبل أن يستشهد والدهما  لكنهما صارا لا يذهبان معنا، لأنهما فقدا من كان يعطيهما مصروفهما اليومي قررت أنا ومرتضى أن نعطيهما مصروفنا كي يشتريان، أنا وأخي عندنا نقود ولكن خضير وأخاه لا يمتلكان مالا أكمل هيثم حكايته، ووضع يديه على وجهه وراح يبكي، وبكى مرتضى أيضا، قربهما والدهما نحوه، ضمهما بقوة وراح يبكي معهما.

التفــت المدير إلى الطفلين، بــــــــــــارك عملهما، واستــدعى الجميع إلى اجتماع طارئ، وجه كلامه للمعلمين والمعلمات، راح يذكـــــــــــــرهم بأبنــــاء الشـــــــهداء، ويوصيــــهم بالتعامل اللطيـــــف معهـــــــم، وأن يشــــــــــــــخصوا لــــــــه احتيــــــاجاتهم لكــي يوفرهــا لهم جميعا.