اليقظان
لكل منا طاقته التي تمكنه من استيعاب الآخر، صديقا كان أو قريبا، لكن هناك من لديه قدرةً أكبر من الجميع، حدقة عينه تتسع لتشمل إلى ما أبعد من دائرته الخاصة، لذلك يتحوَّل أمثال هؤلاء ليأخذوا دور الأبوة في النصح، ودور الأمومة في الاهتمام والاعتناء بأصدقائهم، ولعل «سجاد» يتردد عليَّ طيفه بين الحين والآخر كمصداق للشاب الاستثنائي، فقلبه يتسع للجميع.
كان الطريق وعرا جدا، وهو ينقلنا إلى قرية (عين الحصان)، وصلنا بعد مشقَّة كبيرة، الشتاء هنا لا يحتمل، جلودنا التي تعودت دفء الجنوب نشعر بأنها ستتمزق بفعل هذه البرودة، عظامنا لا تحتمل البرد، ولكن ذلك لم يكن ليمنعنا من الوصول، تجمعنا في مدرسة المنطقة والتي سمِّيت كذلك بمدرسة (عين الحصان)، الجميع يتوافد إلى هنا، السماء بدأت تمطر، كانت المعركة التي سندخلها ستبدأ توًّا بعد وصولنا، ولكن تعقيدات الظروف الجوية حالت دون وقوعها، لتمنحنا ليلة من الراحة، توزعنا على صفوف المدرسة، نحتمي بما تواجد لدينا من ملابس وملاءات وأغطية لكي نستشعر الدفء قليلا.
استسلم الجميع للنوم، الطريق الطويلة التي قطعوها، زيادة على الإرهاق الذي سببه الجو، كذلك صوت المطر وهو ينهمر، كل ذلك كان مدعاة للاحتماء، وأخذ قسطٍ من الراحة، كان التعب باديا على وجوه المقاتلين، الشباب من هم في مقتبل العمر ولم يجرِّب قساوة الحياة من قبل، كانوا في بداية أحلامهم، يلتصقون الواحد قرب الآخر، يغمضون أعينهم ليفتحوا خيالاتهم على صباح يشرق بشيء من السلام والأمن على وطنهم، يتخيلون القادم من حياتهم، يسيرون جنبا إلى جنب بطريق طويلة بين الأعشاب النظرة، يمسكون بأيدي بعضهم، غيمة سوداء تواجههم، يعقدون العزم على مواجهتها، كي يبعدوا خطرها عن حقولهم وحقول آبائهم، يدفعون بقوة، يصرخون بوجه الغيمة السوداء حتى تتلاشى بسرعة، تعود الشمس لتشرق من جديد على هذه الحقول.
لم أتمكَّن من النوم في البداية، جلست أراقب هؤلاء الشباب وهم يزيحون تعبهم على ما افترشوه في هذه الصفوف، تبسَّمت مع نفسي، الكل يعتمد على همتهم، ويعلِّق الآمال على شجاعتهم من أجل إخضاع العدو، كانت القاعة كبيرة لتستوعب أجسادهم المتعبة، قبل أن أستسلم للنوم، لمحت شابًّا كان جالسا في ركن القاعة البعيد عني، كان يغطي نصف جسده الأسفل بلحاف، بينما يسند ظهره على الحائط، يوزِّع نظراته على أجساد أصحابه فيما يغطّون هم في نوم عميق، لم يعنِ الأمر لي شيئا، أعتقد أنه يفكِّر بأمر معين، وهو ما سرق النوم من عينيه، أخيرا استسلمت للنوم، بعد لحظات نهضت من فراشي، كنت أبحث عن دورة مياه قريبة، كان الشاب جالسا كما تركته، تكرر أمر خروجي لدورة المياه مرتين، والشاب في مكانه لم يتحرك أو ينم.
عند عودتي وقبل أن أستلقي في فراشي، تكلمت مع هذا الشاب، اقتربت منه، صرت واقفا فوق رأسه مباشرة، أثنيت ركبتي وجلست قبالته، لملم رجليه، ودعاني للجلوس إلى جانبه، قلت له:
- الجو بارد جدا هذه الليلة، الجميع استسلم للنوم سريعا، لكنك لم تنم، كنت أشاهدك مستيقظا كلما نهضت من فراشي، ألا تخبرني ما الأمر؟
- لا أبدا يا عمي، لقد نمت قليلا وأعتقد أنك لم تلاحظ، قل لي يا عم هل تحتاج شيئاً، أنافي خدمتك، لا تتعب نفسك أنا سآتي لك بما تريد حالا.
- لا شكرا يا حبيبي، ولكني أحببت أن تنام كي تمنح جسدك بعض الراحة، فأمامك واجب غدا.
عدت إلى مكاني ثانية وهذه المرة استيقظت للصلاة، كنت أول الجالسين، مرَّرت نظراتي على القاعة، دهشت عندما وجدت ذلك الشاب جالسا كعادته، لم ينم، لا بل أني وجدته واقفا عند القاعة، لم أعرف السرَّ الذي يخفيه، كان فتى رائعا، لم تفارق الابتسامة محياه أبدا، اقتربت منه، وأنا أهم بالخروج، التفت إليه:
- أقسم أنك لم تنم البارحة أبدا.
- الآن سأنام يا عماه، فقد انتهت مهمتي.
وبالفعل بعد أن غادر الجميع هذه القاعة، ارتكن الشاب وغطَّ في نومٍ عميق، لم يستغرب أي واحد من أصدقائه ما يفعله، كأنهم يعلمون جيدا ما يريده هذا الشاب، حينها كان لا بدَّ من أن أرَوِّي فضولي الذي يقودني لمعرفة ما يخيفه، اقتربت من أحد الشباب، وكان صديقه الملازم له، اسمه (سالار):
- سالار: ما قصَّة صديقكم النائم هذا، لم أره ينم البارحة، ولكن ما أن أطلَّ الفجر حتى استسلم للنوم..!
- آآه أتقصد سجاد يا عمي، إنه مقاتل شجاع، وشاب خدوم جدا.
- بارك الله فيه وفيك يا سالار، ولكن قصدت موضوعة نومه، لم أره ينم البارحة.
- هو هكذا كل ليلة، يقضي الليل كله يقظا، فيما نحن نيام، يخاف إن احتاج أحدنا لشيء معين، كذلك فإنه يراقب إن انتزع الغطاء عن أحدنا قام وأعاده إليه كي لا نشعر بالبرد، إن احتاج أحدنا للماء أو شيء آخر جلبه له بسرعة وهو جالس على فراشه، لا يسمح لأي منا بالحركة هو يقوم بكل شيء من أجلنا.
استغربت لكلام سالار، وهو كذلك شعر أن كلامه لم يقنعني، لذلك التفت إلي قائلا:
- أتعلم يا عم، أن سجاد يمتلك قلبا واسعا، فهو هنا مثل أمٍّ تعتني بصغارها، لا يتكلف أي شيء بل هي طبيعته التي خلقه الله بها، منذ أول أيام التحاقه بنا قبل شهور عديدة وإلى يومنا هذا يمارس طقوسه بانتظام، لم نره نائما في الليل ولا مرة واحدة.
تيقنت أن سالار على معرفة تامة بصاحبه، توجهت نحو الشاب الذي غط بنوم عميق، كان يبتسم وهو نائم، وقفت عند رأسه، كان وجهه مثل كوكب لامع، النور يلازمه حتى في منامه، لم يكن أمامي سوى أن أدعو له ولبقية أصحابه، أن تكتمل أحلامهم التي يطاردونها دائما.