سيدةُ القرابين

{ المصدر : الموسوعة التوثيقية الكبرى لفتوى الدفاع عن عراق المقدسات }

في الحياة يتسلق البعض سلّم المجد أسرع من الباقين، بعطائهم الذي لا يقدر عليه غيرهم، تحولوا إلى مثالٍ يحتذي به الآخرون، عانوا من الفقد، وذاقوا طعم الصبر بمرارته الكبيرة، مرانهم مع النفس خالف مقاييس المعتاد عليه، حتى خلِّد ذكرهم، صار عوضا عما عانوه من فقد وحزن.

على الساتر الأمامي إذ المواجهة لا تبعد كثيرا من مناطق العدو، كنت أرابط مع مجموعة مقاتلين من الحشد الشعبي هناك، لفت انتباهي ذلك الشاب، حزين دائما، غائم ومنعزل عن الجميع وقت الراحة، لكنه في وقت القتال يكون أول من يقف في الامام، كانت عزيمته لا تهبط مطلقا، كأنه وقت القتال شخصية تختلف عما نراه، حاولت أن أستفهم عنه، فسألت بعض زملائه المتواجدين معه حينها، قلت لهم: ما حكاية هذا الشاب، ولم كل هذا الحزن الذي يبدو عليه؟ قالوا لي: شيخنا لقد التحق بصفوف الحشد الشعبي مؤخرا، أما عن حزنه فله كل الحق، لقد فقد ثلاثة من إخوته في هذه المعارك..!!.

كنت مصدوما مما سمعت، فكرت بالذهاب إلى هذا الشاب والتحدث معــــه، اقتربت منــــه، بعد أن سلمت عليه، جلست إلى جانبه، كان صامتا لا يتكلــــم، غارقا في حزنــــه، قلت له: يا بني سمعت إنكم أعطيتم ثلاثة شهداء، كان الله بعون والدتك، لم لا ترجع إليها لعلك تكون سلوى لها عما فقدَت..؟ ردَّ عليَّ: شيخنا أمي هي من ألحت عليَّ أن ألتحق بصفوف الحشد الشعبي، ثمَّ استأذن مني أن يشعل سيجارته، راح يدخن ببطء، كانت عيناه مصوبتين نحو السماء، هو الآن يفكر بشيء لا أعرفه. قلت له: أعتذر منك يا بني فقد آلمتك بكلامي، وهيجت مشاعرك.

بعد أن نفث دخان سيجارته التفت نحوي قائلا: عندما جيء بأخي الأصغر شهيدا وقد سبقه أخويَّ الشهيدان قبله، كانت مناحة عظيمة من قبل والدتي، لم تحتمل فراق أولادها الثلاثة، كنت خائفا عليها بشدة، كانت النائحات أيام مجلس عزاء أخي يندبن (الحسين «عليه السلام») ويستذكرن واقعة (الطف) وما جرى فيها، إلى أن أقدمت إحداهن على ذكر مصيبة السيدة (أمُّ البنين)، وكيف أنها فقدت كلَّ أولادها الأربعة، حينها ضجت أمي باكية، لطمت وجهها بشدة، وكانت تقول لمن حولها من النسوة: إني والله لأستحي من سيدتي (أم البنين)، أريد أن أواسيها كما يليق بها.

من تلك الحادثة لم تفارق أمي ذكر السيدة المضحية فكانت تنعى بصوت خفي وهي تربط مأساتها بمأساة (أم البنين)، انتهت أيام مجلس العزاء وكانت أمي ما تزال على تلك الحالة، تنعى بشكل متواصل، حتى قالت لي: لا بدَّ من أن تذهب للقتال، لا بدَّ من أن تكمل مشوار إخوتك، حينها شعرت أن الشيء الذي بإمكانه أن يخفف عن والدتي هو ذهابي للجبهة، لذلك تراني منذ ذلك اليوم وأنا مع إخوتي هنا على الساتر؛ لأن أمي تريد أن تفخر بنا سواء كنا أحياء أم موتى يا شيخنا.

كانت حادثة ذلك الشاب مع أمه من أكثر ما سمعت غرابة، حينما تكون القضية الحسينية تطبيقا حقيقيا في سبيل الكرامة والدين.