عينُ السيِّد التي لا تنام
تفترض الظروف الجوية تعاملا مغايراً لجسد الإنسان، فالشتاء على سبيل المثال يؤدي إلى أن يتحوَّل الليل إلى سباتٍ تام، لا تعرف ما الذي يحصل، لكن البرد يتسلل إلى عظامك فجأة، يجعلك ترتعش، تبحث عن الدفء أينما كان؛ لأنك لا تتحكم بما يريده جسمك، فقط ما عليك سوى الاستجابة لما يأمرك به، لكنك تسمع بين الحين والآخر عن أناس ذوي قدرات خارقة، تكيفوا مع ما يحيطهم، طوعوا إمكاناتهم الروحية حتى تتغلب على ما يلحُّ عليهم من أجسادهم..!
كنت قد وصلت مع حملة (التعبئة والإرشاد) إلى مشارف مدينة (تلَّعفر)، إذ كان لا بدَّ من تقديم المساعدة والدعم إلى قوات الحشد الشعبي المتواجدة هناك، كانت المنطقة تقع تحت سيطرة مقاتلي (بدر)، الليل هنا لا يشبه ما اعتدت عليه في مدينتي إذ الجنوب الدافئ حتى في شتائه، هنا البرد يلتف مثل غولٍ كبير، يقطع كل شيء، يخنق المدينة، يجبر الجميع على الاستسلام له، كانت الساعة تشير إلى الثانية والنصف ليلا، توقفت قافلتنا في ذلك المقر، تمَّ توزيعنا على غرف المقاتلين حتى نشاركهم أسرّتهم، وهو نوع من الحماية لنا من البرد.
كانت حصتي من ذلك التوزيع أني نقلت إلى غرفة رجل تجاوز الخمسين من عمره، كانوا يطلقون عليه سيد (سعيد العوادي)، ما أن رآني على باب غرفته الطينية حتى قفز من مكانه، رحَّب بي ودعاني للجلوس معه، قرَّب مدفئته مني، وجلب لي غطاءً كان قد رفعه من ظهره وضعه علي، لم يكن يستمع إلى تهدئتي له بأني بخير، بل قال لي: «ما عليك سوى السكوت وأن تهدأ، فالليلة مجنونة جدا بهذا البرد يا صديقي». كان الرجل يجلس بين عددٍ كبير من الأجهزة، تحولت غرفته إلى أستوديو إذاعي صغير، أجهزة الإرسال تطلق أصواتها وهو يرد عليها بسرعة، كان يربط بين تلك الأصوات بسرعة هائلة، تنبهت قليلا، عدَّلت من جلستي قليلا، ثمَّ توجهت له قائلا:
- سيدنا ما هي مهمتك بالتحديد؟
- أنا هنا كما ترى، على الجهد الاستخباراتي، أعتذر عن أي إزعاج قد تسببه لك هذه الأجهزة، ولكن ما العمل، لا بدَّمن أن تكون كل خطوط قواتنا في اتصال مستمر لكي لا نقع بأخطاء لم نكن نحتسبها، فضلا عن ذلك لا بدَّمن أن نكون عينا على تحركات العدو، نتتبع خطواته بدقَّة، ثمَّ نوجِّه المقاتلين نحوها.
- ولكن سيدنا أراك وحيدا، ألا يوجد من يساعدك، فعملك دقيق جدا، ولا بدَّ أن تستريح قليلا كي تستعيد تركيزك من جديد؟
- الأولاد كلهم متعبون، (كان يقصد المقاتلين الآخرين)، ولا أريد إزعاجهم، أنا متدرب على هذا العمل منذ سنوات طويلة، وأمتلك القدرة على التكيِّف مع هذه الظروف، زد على ذلك أني لا أنام ليلا.
رنَّت جملته الأخيرة في مسمعي، كان النعاس قد غلبني بشدة، تمنيت له التوفيق، واستسلمت للنوم، بعد ساعة تقريبا، نهضت من فراشي، كنت أبحث عن دورة المياه، ما أن فتحت عيني حتى طالعني السيد جالسا يستقبل الأصوات من كل مكان، لم يتغير شيء، ولم ينم أيضا، استعدت مع نفسي آخر جملة سمعتها منه قبل النوم (زد على ذلك أني لا أنام)، كانت الليلة تطول وتطول، بعد عودتي من دورة المياه سألته مجددا:
- لم تنم إلى الآن أليس كذلك؟
تبسَّم بوجهي، ثم أعاد جوابه نفسه:
- ألم أقل لك إني لا أنام، ولا أحب النوم أبدا طيلة تواجدي في الواجب هنا، عشرة أيام هنا أقضيها من دون نوم، أرجوك عد إلى نومك، فأنت قادم من سفر طويل.
في الصباح كنت قد استيقظت من فراشي عدَّة مرات، إلى الصلاة، وإلى دورة المياه، وفي كل مرَّة أجد السيد مستيقظا، خرجت من غرفة السيد، كنت أقابل المقاتلين الذين لم أرهم ليلة البارحة، وكل واحد من يعيد عليَّ الجواب نفسه حين أسأله عن وضعه ومقدرته الكبيرة في عدم أخذ قسطٍ من الراحة، كان بعضهم يضحك في وجهي، ويحاول أن يستفسر مني عن مدى استغرابي لحالة هذا الرجل، وصلت إلى قائد الفصيل هناك وتحدَّثت معه:
- أجد من الضروري أن تجعلوا مع السيد مجموعة من المقاتلين ليساعدوه في مهمته، فهو كما تعلم كبير في السن، ومهمته تقتضي حضورا ذهنيا كبيرا.
- أعرف ذلك تماما، ولكن هو يرفض هذا الأمر باستمرار، يبرر رفضه بأنه لا يحتاج لأية مساعدة كونه لا ينام، فضلا عن ذلك فإنه يقول: ليس لدى الجميع القدرة على تمييز الأصوات وفك الرسائل المشفَّرة، فغالبية المقاتلين هم من الشباب الذين لم يدخلوا دورات تأهيلية في التعامل مع سلك مهم كسلك المخابرات العسكرية.
- لقد نقلت لك ما شاهدته في ليلة البارحة من هذا الرجل الذي لا ينام.
- لا تستغرب أبدا، فبعض بني البشر لديهم طاقات خارقة، تتجاوز قدرتنا أنا وأنت، دعني أخبرك بسر: نكون في أشد حالات الارتياح حينما يكون سيد سعيد العوادي معنا، وحينما يتمتع بإجازته ننتظره بشوق كبير، لا أعلم ولكنه هاجس تلمَّسته عند بقية المقاتلين، الرجل فيه من الطمأنينة الشيء الكثير، وهو ما يبدِّد من مخاوفنا في ليالي هذه الأرض الموحشة.