عينُ الأجدل الثاقبة
لقد ذاع صيته كثيرا في جبهات المواجهة مع الدواعش. في استراحة المحاربين يتداول اسمه، كانت الهمم ترتفع بين المقاتلين حين يأتي أحدهم على ذكره، اسمه الذي حفظ عن ظهر قلب كان يهبُّ مثل نسيم دافئ يرطب أجواء المعارك، فيملأ الألسن حديثا والآذان استماعا، يبثُّ الهمم ويحشد الأرواح بالإصرار. مثل أجدلٍ يقتنص بعينين ثاقبتين أجسادا ملئت ظلاما، فيرميها خارج حدود الحياة، كان يسدد إطلاقاته ليذيقها الموت ويوصلها أبواب جهنم بسرعة خاطفة، كانوا في منظار قناصته مثل جرذان ما أن تسمع بذكره في الطرف الآخر حتى تشرع هاربة، أو تختفي عن دائرة منظاره. يلاحقهم منظار سلاحه في التلال والأودية والمراعي الخضراء، يلاحقهم حتى في ملاذاتهم. الأجدل (أبو تحسين الصالحي) أيقونة الحشد، والعلامة الفارقة للواء علي الأكبر، القصص التي تحكى عنه جعلت من وجوده قمرامضيئا في عتمة الجبهات.
أبو تحسين أخذ منه الكبر والشيب مأخذا، ستيني العمر، يجلس قريبا من موقد للنار يتدفأ من برودة هذا الجو القاسي، لكن لا يبدو أنه فقد همته، بل إنه يحافظ على جسمه كأي شاب في مقتبل العمر، كان يحدث نفسه وهو يواجه الموقد: وأنا بهذا العمر المتقدم، لم أشعر أني قد عشت حياتي كما الآن، فقد أطال الله بعمري لكي أشارك هؤلاء الشباب فرحة قتال الدواعش.
مدَّ يديه نحو فوهة الموقد الناري وأخذ يتلمس دفء ذلك اللهب. هناك أخلاقيات لا يجوِّز لنفسه تجاوزها مطلقا، فلا يطلق النار على أي شخص لا يحمل السلاح، كذلك لا يطلق النار على من يشير لي من بعد بعلامة الاستسلام فهذا محرم عنده، وهو محرم بكل الشرائع، كان يصيب من أول إطلاقة.
مشهد أول:
من منظاره رصد عن بعد ثلاثة رعاة غنم يتوجهون نحو الساتر الذي يتواجد فيه، كان لدى أحدهم سلاح فأطلق إطلاقة تحذيرية قريبة من قدميه، فرمى سلاحه وأشار إليه من بعد بعلامة الاستسلام، سمح لهم بالتقدم فيما اخذ يراقبهم من بعد، كان يظنهم مجرد رعاة وطلب منهم الابتعاد عن منطقة المعارك، لكنه لم يخف ظنونه أنهم قد يكونوا من الدواعش، دخلوا أحد المنازل القريبة، واعتقد أنهم قد استبدلوا ملابسهم المدنية، وصاروا يواجهونا من ذلك المنزل، لم يغب عن فكره ولو للحظة أنه ذلك العسكري القديم، الذي يتعامل مع الأعراف العسكرية بانضباط تام، لذلك صار بعدها يتحذر كثيرا من أن يفسح مجالا لمثل هذه الخدع كي لا يقع المحظور عليه أو على زملائه، لكنه حينها تعامل معهم بأخلاقياته التي يعرفها وجبل عليها..!.
مشهد ثانٍ:
في بيجي يراقب منطقة معينة في ربوة عالية، وإذا به يرى امرأة تخرج من بيت، كانت ترتدي جبة وحجابا إسلاميا، لا يبدو عليها الخوف والفزع مطلقا، إنما تسير بخطوات ثابتة وعلى مهل، لم تعر أي انتباه للاشتباكات الحاصلة أنذاك في تلك المنطقة، كان أبو تحسين يراقب تلك الخطوات، يشكك فيها، خطرت بباله أنها قد تكون معادية، سارت حتى دخلت بيتا آخر، كان يرقبها بدقة، كان يسمع ومنظاره مسدد إلى ذلك البيت الذي دخلت إليه المرأة، يسمع من كانوا بقربه يلحون عليه: لم لا تقتلها يا أبا تحسين؟، كان منظاره مسددا على ذلك البيت، وأجابهم بهدوء تام من دون أن يزيح عينه عن منظاره:
- إني لا أقتل إمرأة لا تحمل سلاحا.
بقي يراقب ما يجري، اختفت المرأة في ذلك البيت لما يقارب النصف ساعة، كان حينها أبو تحسين كالأجدل الذي ينتظر فريسته، قضى نصف ساعة يفكر بعشرات الأجساد التي ستدخلها قناصته إلى جهنم، وفيما كان يفكر، خرجت المرأة بصحبة مقاتل يرتدي ملابس داعش، ويحمل سلاح (m16)، سدَّد أبو تحسين إطلاقته وأردى ذلك الداعشي في الحال، جسد آخر (يفكر أبو تحسين) تدخله قناصة الأجدل إلى جهنم، يشعر أن العالم قد نقص مسخا، حينما أردى ذلك الداعشي قتيلا، استحثه أصحابه أن أقتلها هي الأخرى فهي داعشية أيضا، تنفس أبو تحسين بابتسامة الواثق من نفسه والعارف بأخلاقيات القنص، وأجابهم:
- انتظروا حتى يتبين لي أمرها، أقناصة هي أم مقاتلة عادية، أم أنها مجرد امرأة؛ ولأن ليس بيدها سلاح فمروءتي أكبر من أن أقتلها، لذا دعوني أختبرها، سوف أرمي إطلاقة فوق رأسها مباشرة فإذا انحنت واستلمت سلاح رفيقها بعثتها خلفه مباشرة، وسينقص العالم حينها من مسخ آخر، أما إذا انحنت وأدت التحية، فهي بذلك قناصة، فيا أصحابي، (مازال منظار قناصته مسدد على المرأة فيما كان يحدثهم دون أن ينظر إليهم)، ثمة أسلوب عالمي بين القناصين لا يعرفه غيرهم مفاده (إنك إذا رميت على القناص لا ينخفض ولا يخاف من الرصاصة، بل ينحني لأداء التحية، وبذلك يكون قد سلم من إصابتك).
حينها أطلق أبو تحسين رصاصة قريبة منها، وإذا بها تدور وتنحني وتؤدي التحية، فقال لهم، دون أن ينظر إليهم: إنها قناصة محترفة، ومن منظاره رأى كيف استخرجت ما في جيب الداعشي، دون أن تلمس سلاح ذلك الداعشي، لأنها تعلم أنها لو التقطت السلاح سوف يقتلها في الحال، انسحبت من مكانها ولم يطلق عليها ثانية، وكان هذا على مرأى أصحابه المتواجدين معه حينها.
مشهد ثالث:
في منظار قناصته (شتاير) رأى مجموعة من الشباب حاولوا تنفيذ هجوم خاطف، وكان من بينهم شاب يدعى علاء، كان بدينا وحركته ثقيلة بعض الشيء ولكنه أصر على المشاركة في الهجوم، هو يراقبهم من مكانه، رأى شيئا يسقط من علاء أعتقد أنها محفظته الخاصة، بعد صعود زملائه لمكان أعلى رجع علاء كي يجلب محفظته، كانت حركة خاطئة منه بشكل واضح، فاشتعلت نيران العدو اتجاهه، تحير في مكانه، فلو صعد مرة أخرى ليلحق بزملائه سيقتل على الفور، ولكن كيف سيجبره أبو تحسين على البقاء في مكانه حتى لا يقتل؟
فكَّر في طريقة ما كانت اللحظات تمر بسرعة خاطفة، ولا بد من أن يتخذ قرارا يحافظ فيه على حياة علاء، حدَّدَ المسافة بينه وبين علاء (1800) متر، قرر أن يطلق النار على قدمه كي لا يتقدم لمنطقة زملائه لأنه سيقتل فورا إن فعل، وبالفعل فقد صوب على قدمه، توقف عندها دون حراك، علم فيما بعد أنه قال لأصحابه: إن أبا تحسين قد صوَّبَ عليَّ كي لا ألحق بكم فأقتل، لكن الطلقة جاءت في بنطلونه ولم تصبه بأذى حينها فرح كثيرا ورآه يمشي أمامه من دون أن يصاب بمكروه معين ما.
مشهدٌ رابع:
ساندا قناصته على كتفه، يحاول أن يدفئ عظامه بلهيب الموقد، يفكِّر بأصعب موقف مرَّ به، حينما واجه امرأة قناصة علم فيما بعد أنها تدعى (أم أحمد)، كانت هذه المواجهة حينما كانت المعارك محتدمة في مدينة بيجي منطقة الحي العصري، كانت قناصة محترفة تمتلك مهارات فائقة وصبرا لا حد له في التعامل، كانت المعارك في تلك المنطقة ضارية جدا، بحيث إن أغلب قيادات داعش دخلت في تلك المعركة، لم يقصر معهم، فقد أرداهم واحدا تلو الآخر، ولكنه توقف أمام عقبة كبيرة كانت تمثلها تلك المرأة، كانت صيادة ماهرة وقناصة لم يسبق له أن رأى مثلها من قبل، حاول أن يستعين بمهارته لكي يصطادها كانت ترد عليه بمثل ما يفعل، حاول كل منهما اصطياد الآخر ولم يفلح كلاهما، استمرت المناوشات بينهما لما يقارب الساعة تماما، تحاول المرأة إصابته وهو يحاول اصطيادها بقناصته.
بعدها فكَّر في أن يبرز لها شيئا من جسده كي تخرج من موقعها فيصيبها بسرعة خاطفة، وإذا به يراها تفعل ما يفعله تماما، فلم يفلح الأمر، تسلل الملل إلى أبي تحسين فأطلق عليها سبع اطلاقات متتالية، ردت عليه بسبع اطلاقات متتالية كذلك، قال في نفسه: ما العمل، وكيف أوقع هذه القناصة؟ فكَّر في حيلة قديمة، طريقة كان قد تعلمها من دورات التدريب المكثَّفة سابقا: وهي طريقة الصيَّاد الكسلان، إذ يكون القناص فيها بمكانه ثابتا، لا يتحرك، إلى أن تأتي الفريسة، فينقض عليها، نام على الأرض ولم يبد منه شيء سوى فوهة قناصته، مرت مدة من الزمن وهو على هذه الحال، الوقت يمضي وأبو تحسين يستلقي على بطنه نائما، توقعت تلك القناصة أنها أصابت أبا تحسين وإنه وقع في مكانه دون حراك، حينها شاهدها تتحرك قليلا لتحدد الرؤية جيدا، ما أن وقفت قليلا ظنت أصابها مباشرة من دون تردد فوقعت قتيلة في حينها، كانت تلك اللحظات من أصعب ما مرَّ عليه في هذه المعارك وغيرها، لم يرَ مثل تلك القناصة ذكاءً ودهاءً في حياته كلِّها.
أبو تحسين يتبسَّم وهو يستذكر تلك المواقف بما تحتوي من صعوبة بالغة، يفكِّر مرة أخرى بإكمال مهامه الأخيرة، لا بدَّ أن القدر يخفي له شيئا لا يتوقعه، هو هكذا يفكِّر بكل شيء ويحسب حساب لأي طارئ قد يحدث، يلتفت نحو قناصته، يمسِّد عليها بيده، يخاطبها: ما زال هناك الكثير من المسوخ علينا إرسالهم إلى جهنم.. أليس كذلك؟، تلحُّ برأسه فكرة أنه لن يموت إلا وهو يحتضن قناصته الـ(شتاير)، رفيقة دربه، ومؤنسة ليلته هذه وكل لياليه في الحرب.