سرُّ الشهادة

{ الموسوعة التوثيقية الكبرى لفتوى الدفاع عن عراق المقدسات }

لا يمكننا أن نفهم معاني البسالة وتعدد الأدوار نحو هدف واحد، إلا بالدخول في صلب الحكاية المشكِّلة لتلك المعاني، حيث الابن يواصل مسيرة والده في ساحات الوغى، يأخذ عنه زمام الأمور في إكمال مهمته في الجهاد المقدَّس.

بعد عدة تنقلات ضمن وفد (لجنة الإرشاد والتعبئة)(*) إلى جهات متعددة، هناك حيث كانت معارك التحرير لا زالت قائمة، وصلنا إلى منطقة تدعى (تل قولي) في الموصل، وقمنا بزيارة وتفقد المقاتلين المرابطين على تلك الجبهة، شاهدت فيهم حماسة لا توصف لمواصلة القتال حتى طرد أخر إرهابي من العدو، تبادلت معهم الحديث واستفسرت عن شؤونهم، شاهدت بسالتهم في المعارك وإصرارهم القوي، لكن ما لفت انتباهي هو وجود شاب بينهم يقاتل بشراسة تفوق الآخرين، متحمس جدا وهو على الساتر، كان يقاتل وهو يبكي، كان من ضمن المتطوعين في قاطع الحشد الشعبي المسؤول عن تلك المنطقة، حاولت أن أتعرف عليه، فسألت بعض زملائه الذين كانوا معه هناك عن اسمه، فقالوا لي:

- اسمه (أحمد صالح)، ولعلمكَ يا شيخ لقد فقد هذا الشاب والده في إحدى المعارك، وجاء هنا بدلا عنه، وهو لا يهدأ أبدا مندفع دائما للقتال.

حينها قمت باستدعائه، فجاء على الفور، تبادلت معه التحية والسلام، وجلسنا نتحدث قليلا، قلت له:

- يكفيك فخرا إن والدك قد لبى نداء السماء ورحل شهيدا من أجل الوطن والمقدسات، هوِّن عليك لا زلت شابا في مقتبل العمر، وأنا أشعر إن أهلك وعائلتك بحاجة إليك لأنك قد تكون  معيلهم الوحيد في هذا الوقت، فلِمَ لا تعود إليهم؟، فردَّ عليَّ:

- شيخنا لا أقبل أن أدع مكان أبي فارغا على الجبهة، هنا قتل والدي وتريدني أن أجلس في البيت أشاهد عن بعد، لقد قررت وأنا أحمل جنازة والدي أني لن أعود للبيت حتى أكمل ما كان أبي عازما عليه، هنا تكمن كرامتنا يا شيخ.

حينها أصابتني الدهشة وأنا أستمع له، ولكني تذكرت قصة مشابهة لما قالها لي (أحمد) ولكنها كانت على العكس، إذ كنت في يوم من الأيام بالقرب من المواقع التي كانت ترابط في جبال مكحول، إذ وجدت هناك العديد من الأخوة المقاتلين، ولكن ما لفت انتباهي هو وجود رجل متوسط العمر تقريبا يدعى (أبو محمد)، كان من ضمن كوادر الحشد الشعبي في تلك المنطقة، شدتني عزيمته واستبساله أيضا، توجهت إليه كي أحدثه، فقال لي: لمَّا جاؤوا بولدي شهيدا فتحت الكفن كي أرى وجهه، لم أكن أبكي حينها، توجهت نحو (أبي عبد الله الحسين عليه السلام)، فقلت له: تقبل منا هذا القليل يا أبا عبد الله، وعندما انتهت الفاتحة وكان قد مضى على استشهاده أربعون يوما قررت الالتحاق بالجبهة؛ كي لا أدع مكانه فارغا، ومن حينها وأنا هنا مع أصدقائه وإخوته الشباب أقاتل جنبا إلى جنب كي لا أشعرهم بأن صديقهم قد رحل عنهم أبدا.