الملاكُ الذي عرج نحو السماء
في زاوية من البيت القديم والمتآكل كانت الأم تتنهد وتدعو في هذه الساعة المتأخرة من الليل، زوجها المقعد كان نائما على سريره الذي يلتصق بحائط الغرفة، النوم لا يطاوعها هذه الليلة، تستشعر بحدوث شيء ما، عينها ترف وهي إشارة غير جيدة بالنسبة لها، جزء كبير منها يحاول أن يطمئنها على مصطفى فهو مثله مثل كل الشباب الذين في الجبهة يقاتلون ببسالة وإقدام، ويعرف كيف يحمي نفسه، لكن سرعان ما يغادرها هذا الشعور لتتلبسها حيرة كبيرة، موجات متلاطمة من أسئلة عديدة تحفر في رأسها، تدخلها في نوبة بكاء عميقة، أين هو ولدي الآن؟ كيف هي حالته؟ ماذا يأكل؟ يقولون: إن المنطقة التي فيها فرقته العسكرية قد سقطت كلها بيد الظلاميين، هل انسحب أو بقى في مكانه؟ لا أحد يتحدث معها، ولا يمكن لأيٍّ منهم أن يعطيها الأجوبة التي تهون عليها، في النهاية اضطرت إلى أن توقظ زوجها (سيد أرجوك استيقظ فقلبي يكاد يتوقف هذه الليلة، لا أعرف بالضبط، ولكني أعتقد أن ابننا مصطفى في خطر كبير هذه الليلة)، عدَّل الوالدُ من جلسته، حاول أن يهون عليها، لكنه لم يستطع السيطرة على دموعه فبكت معه، قال لها: نعم.. أنا كذلك أشعر أنه ليس بخير، فقد رأيت مناما كأن مصطفى يحلق نحو السماء مثل ومضة سريعة، من دون أن يحتاج لجناحين، فقط تبسم وهو يمر فوق بيتنا، وبعدها اختفى تماما، تقابلا فبكيا معا.
في هذه اللحظة كان مصطفى يسحب جسده بصعوبة بالغة، فقد أصابت إطلاقة نارية قدمه اليسرى، يحاول أن لا يضغط على قدمه كثيرا لكي لا يثير ضجة في المكان فيكتشف أمره، استند على حائط لأحد المنازل، وراح يتعكز على قدمه اليمنى ليصل إلى داخل البيت المهجور، حينما استقر في نهاية المطاف راح يفكر في نفسه، لقد بقي وحيدا في هذا المكان المليء بهذه الوحوش البشرية، كيف سيكون مصيره حين يكتشفون أمره؟ هل سيعاملونه بما تعلم عليه هو في الأخلاقيات العسكرية ويطلقون سراحه؟ أو سيبقى عندهم رهينة يساومون بها الحكومة من أجل إطلاق سراحه؟ أو أنهم سيضربون بكل تلك الأشياء عرض الجدار، ويتخلصون منه بإطلاقة واحدة على الرأس؟ أووو لا أحتمل كل هذه الأفكار، عليَّ أولا أن ألقي نظرة على قدمي التي باتت تثقل حركتي بصورة غريبة، الجرح ما زال ينزف، الكاحل مهشم تماما، لم يخلع بسطاله العسكري، يتذكر أنه احتفظ بلفاف طبي للضرورة، أخرجه من جيب سترته العسكرية، راح يضغط على الجرح بقوة، وهو يلف قدمه حبس أنفاسه التي كادت تنفجر معلنة عن صرخات ألمه في أرجاء المكان، تصفد جبينه من العرق، العطش هو ما يفكر به الآن، فقد فرغت زمزميته من آخر قطرات الماء، لم يذق الماء منذ منتصف نهار هذا اليوم، أخرج هاتفه المحمول، وقلل من إضاءته لكي لا يلفت الأنظار نحوه، كان أول اسم يضعه بقائمة الأسماء هو (أخي خالد) ضغط على زر الاتصال وراح يتحدث بصوت ضعيف.
كان خالد نائما في بيته في تلك الليلة، فقد كان يشعر بتعب كبير بعد نهار كامل قضاه يتحرك وهو يتقصى أخبار الفرقة الحادية عشرة في الجيش العراقي ويسأل عن وضعها، كان يحاول الوصول إلى أية معلومة عن أخيه مصطفى، فقد تضاربت الأنباء حول من يقول: إن الفرقة انسحبت نحو أطراف بغداد بعد أن منيت بخسائر كبيرة في منطقة كرمة الفلوجة، وبين من يقول: إن الفرقة قد تم هيكلتها تماما فقد تم الاستيلاء على آلياتها وأسلحتها بعد أن تم محاصرتها في تلك المناطق، ومن نجى بحياته من جنودها كان محظوظا جدا. في هذا الوقت كانت الأخبار تنزل على مسامع خالد كالصاعقة، لم يستطع أن يخبر والدته ووالده بشيء عن مصطفى، حاول الإتصال بأخيه مرارا، لكنه كان في كل مرة يستمع لرد المجيب الآلي: (الجهاز مغلق أو خارج منطقة التغطية)، بعد رجوعه بساعة متأخرة للبيت أخبر زوجته أن توقظه باكرا كي يذهب إلى وزارة الدفاع في الصباح الباكر، ما إن استلقى خالد على فراشه حتى لم تمض ساعة وإذا به يصحو على نغمة جهازه النقال، قفز من سريرة وهو ينظر إلى الاسم (أخي مصطفى):
- ألوو خالد.. السلام عليكم
- وعليكم السلام مصطفى إرفع صوتك قليلا كي أسمعك..!
- لا أستطيع، فالمكان مليء بالدواعش وأنا محاصر بينهم هذه الليلة، خالد اسمعني أرجوك، أريدك أن توصل حالتي لكل من تعرفه، فقد انسحب كل من كان معي وبقيت وحيدا لم أستطع التراجع بسبب إصابة في بقدمي وتعيق حركتي.
- مصطفى أرجوك تماسك أين أنت الآن، وكيف هي حالتك؟
- أنا في منطقة تسمى الهياكل في الكرمة، أنا عطش جدا يا خالد، أسمع حركتهم فهم قريبون مني سأضطر لأنهي الاتصال دعنا نتواصل بالرسائل.
انقطع الاتصال، قفزت أنامل خالد نحو أيقونة الرسائل، فكتب لأخيه: (حبيبي مصطفى كن متماسكا هذه الليلة فقط، سأذهب حالا لأطرق الباب على من أعرفه، عليَّ أن أجد من يعينني لإنقاذك، فقط تماسك) ضغط على زر الإرسال، دقائق قليلة حتى استلم خالد رسالة من أخيه: (خالد لا تتأخر فلا أعرف ما الذي سيحدث بعد قليل، أرجوك أن تخبر والدتي أني أحبها كثيرا، قبل يدها ويد والدي نيابة عني)، كان خالد يقرأ كلمات أخيه وهو يبكي بحرقة شديدة، حاول الاتصال بكل من يعرفه، علَّه يصل إلى قائد الفرقة، أو قائد عمليات الأنبار، أو يصل إلى وزير الدفاع نفسه، كل من يتصل بهم يقولون له: إن المنطقة سقطت عسكريا بيد الدواعش، ونحن نحتاج إلى موافقات رسمية لتحريرها. بدأ الشك يسري في عقله، هل سيفقد أخاه ويدعه فريسة لتلك الوحوش تتناهشه وتشفي غليلها بالتمثيل بجثته؟ ما الذي يمكن أن يفعله في تلك الحالة؟ نادى على زوجته وأمرها أن تفتح القرآن وأن تدعو بكل حرقة كي ينجي الله مصطفى من هذه الصيبة، لم يستطع خالد الجلوس أبدا، هو يعلم أن والديه مستيقظان الآن .
صوت واحد يقترب، لا بل صوتان، صاروا ثلاثة، كانوا يتحدثون بلهجة يعرفها مصطفى تماما: لقد أبدناهم اليوم، لم يتبق أحد من تلك الفرقة العسكرية .. هههه .. هل رأيتم كيف تخلوا عن كل شيء وهربوا، نعم.. باقية .. باقية..، نزع مصطفى خوذته عن رأسه، وخلع سترته العسكرية ودرعه، فقد كان مثقلا بها تماما، قرَّب بندقيته من صدره، وهو ما يزال في مكانه، إنها المواجهة الأخيرة، سيفتشون المنازل بعد قليل، ولا بدَّ أنهم سيكتشفون أمري حينها، قليل من الصبر هو كل ما أحتاجه، هذا ما أخبرني به خالد .. هااا .. تذكرت لا بدَّ أنه أرسل لي رسالة الآن فقط اخترت وضع الصامت للجهاز ونسيت أن أتواصل معه، أخرج هاتفه مرة أخرى لكنه لم يجد رسالة جديدة، خاب ظنه كثيرا، لكنه أعطى لأخيه العذر لأنه في هذه اللحظة يتصل بكل من يعرفه، نعم هو يعلم إن خالدا لن يتوقف إلى أن يجد حلا مناسبا له، انتبه إلى أيقونة المعرض، ضغط على الزر فخرجت أمامه مجموعة من الصور كانت كثيرة جدا، راح يتفحصها بسرعة، صور لأصدقائه في نفس الفرقة العسكرية، وهم يجلسون على دبابة عسكرية، كان هو بالمنتصف وكانت الابتسامات تكشف عن وجوه مرحة جدا ولكنها ذهبت الآن، صورة أخرى له وهو بين أصدقائه في إحدى أزقة مدينة الصدر مكانه الأخير، كانت قبل أن يلتحق آخر مرة للواجب، صورة أخرى له مع خالد وعائلته، وابنة خالد الصغرى في حضنه، صورة له مع والده على سريره وهو يحاول أن يمازحه بروحه التي عرف فيها بين عائلته، صورة أخرى لم يستطع أن يحبس دموعه عنها، كانت حينما التقطها خالد له، وهو يضع رأسه في حضن والدته، كانت الأم تضع يديها على رأس إبنها الأصغر، وهي تبتسم، يتذكر فعلا أنه في ذلك اليوم واجه مشاكسة ثقيلة من أخيه خالد وهو يثيره بسخرية قائلا له: ما زلت طفلا، هههه مدلل الوالدة، نعم أنت ما تزال طفلا يا مصطفى ههههه، حينها هجم عليه قائلا، لكنني طفل عسكري أيها الخامل، وراحوا يضحكون جميعا. أغلق هاتفه النقال وبكى بصوت خافت بكى كثيرا، من سيعيد إليه تلك اللحظات الآن..!
نورٌ ساطعٌ يضرب في المكان ويوجه إليه مباشرة، تتعالى الأصوات، لقد أمسكنا بأحدهم، نعم هو من الجيش، تعالوا إلى هنا، فجأة يختفي كل شيء من أمامه، سوى فوهات البنادق التي تصوب مباشرة نحو جبهته، لم يستطع التحرك، سحبوه بقوة خارج المنزل، كان الفجر قد أرسل أول خيوطه منذراًذ بنهار مشؤوم، الوجوه لم يبد منها شيء، سوى العيون؛ كانت مغطاة بيشماغات حمر وسود على حد سواء، كان الحوار قائما بينهم على طريقة إعدامه، لم ينطق بشيء بل بقي صامتا ينتظر أجله، إلى أن فض النزاع أحدهم وربما كان هو قائدهم، قائلا: عليه أن يصبح عبرة للجميع، لا بد من أن نطوف به في الأزقة والشوارع والأسواق، بعدها نقوم بشنقه على الجسر الرابط بين الخط السريع ومنطقة الكرمة، لا بدَّ أن نقوم بتصويره، لكن لنعرف منه بعض الأمور عن فرقته العسكرية، قد يفيدنا بشيء:
- ما هو اسمك؟
- مصطفى ناصر العذاري.
- كم تبلغ من العمر؟
- تسعة وعشرون عاما.
- من أية مدينة أنت، ولأي فرقة عسكرية تنتمي؟
- محافظة بغداد/ مدينة الصدر، وأنا منتسب بالجيش العراقي الفرقة الحادية عشرة.
- هل تبقى غيرك في هذه المنطقة؟.. نريد منك معلومات مفصلة.
.. صمت مطبق.. يفاجئه أحدهم بضربة على رأسه بأخمس سلاحه، ردَّ على أسئلة الأمير أيها المرتد، .. صمت مطبق آخر، يسحق أحدهم على قدمه فيصرخ من الألم: لا أعرف من تبقى منا، انسحب الجميع، أنا الوحيد هنا، افعلوا ما تشاؤون بي.
سحبوه إلى ظهر إحدى سيارات (نصف الحمل) وضعوه في حوضها، انطلق موكبهم تتصدره السيارة التي تقل مصطفى، أجبروه على الوقوف حتى يشاهد فرحة الجميع بإلقاء القبض عليه، كان يوزع نظراته بين الجميع، لم يبك مطلقا، بل كان يبعث بنظرات الاستهزاء وهو يستمع إلى أصوات المارة وهم مستبشرون باصطياده، كان يقول في سره: أية عصابة هذه التي تؤمنون بها، لا يحملون أية صفة إنسانية، وليست في قلوبهم أية رحمة، توقف عن الاستماع لأصواتهم، كأنه غادر إلى مكان آخر، ما يراه الآن هو ممر أخضر مليء بالورود على جانبيه، في نهايته كان هناك باب ذهبي كبير جدا، دخله مسرعا، تبسم في حينها. عاد ينظر إلى مكان إعدامه الذي حددوه له، على ذلك الجسر، أنزل من السيارة، جاؤوا بحبل طويل، طلب منهم الماء، كان عطشانا بشدّة، لكنهم امتنعوا عن إعطائه مطلقا، لفوا طرف الحبل على عنقه، وربطوا الطرف الآخر على سياج الجسر، بعدها سمع أصواتهم تتعالى ... باقية ... باقية، ركله أحدهم على ظهره سقط إلى الجانب الآخر، طار بعيدا. الوالدة.. الوالد.. خالد.. القطعات العسكرية.. الناس.. العالم.. الكل شاهده وهو يحلق عاليا بسرعة هائلة، كان مثل شهاب يخترق عنان السماء.