طريق الانتصار

{ المصدر : الموسوعة التوثيقية الكبرى لفتوى الدفاع عن عراق المقدسات }

الطريق الذي يؤدي إلى وجهتنا التالية مليء برائحة الدماء، على جانبيه تنتشر مشاهد شبابٍ بعمر أحلامهم الصغيرة وهم يساقون نحو المذبح العظيم، إذ دجلة يحتضن إغفاءتهم الأخيرة، كان يطلق على ذلك المكان بمنطقة (ألبو عجيل)، ولهذا الاسم وقع خاص في الذاكرة إذ ترددت الكلمات كثيرا، وهي تسمع توسلات أبناء الجنوب وهم يرتعبون مما حل بقاعدتهم في ذلك اليوم الكئيب، كان لا بدَّ لنا من التقدم نحو هذه الجبهة كي نمهد الطريق للآليات التي تزحف وراءنا، ومن جانب آخر فهذه المنطقة كانت ملاذا آمنا لمن تبقى من (الدواعش) الذين ما زالت دماء شباب (سبايكر) تقطر من أياديهم.

كان الطريق ينذر بالكثير من المخاطر، تتصاعد منه رائحة غريبة تشبه رائحة الموت، لم نتفاجأ بكثرة المعرقلات التي تواجهنا في هذه المساحة، فلا جديد يذكر بشأن العبوات المزروعة على بجانبي الطريق، كان الطريق يفتح فمــــه مثل فكــــي تنين مرعــــب كــــي يلتهم كــــل ما يطأه من بشر وحديد وحجــــر، كـــان لا بد من أن نتغلب على ذلك التنين ونواصل إذ تنام صغاره هناك. خطة القضــــاء علــــى خــــلايا (داعش) تقتضــي أن نعسكر على المرتفعات التي تطل على المنطقة، وكانت تلك المرتفعات لا تزيد عن ثلاثة أمتار، ولكنها كافية لرصد تحركات الظلاميين، في هذا الوقت لا بدَّ من أن نقتحم منطقة (ألبو عجيل)، تقدمنا نحن مجموعة من لجنة الإرشاد والمتابعة وكان يرافقني بالقيادة كل من  الشيخ (هاني الشمري) ، والشيخ (ستار المرشدي) ، كنا مسؤولين عن خمسين فردا أنيطت بهم مهمة اقتحام تلك المنطقة وتأمينها، على أن تلتحق بهم آليات القوات العسكرية بعد أن يحكموا سيطرتهم هناك، استنفرت قوات الحشد الشعبي والشرطة الاتحادية كل جهودها ووفرت لنا غطاءً كافيا بالأسلحة الساندة، تسلقنا التلة الترابية وكنا نشاهد ضربات العدو وهو يحاول أن يترصدنا من مكان قريب جدا، كانت أسلحته المضادة تتوجه إلينا، لذلك كان علينا أن نتحرك بسرعة قصوى ونناور إلى أن نتدحرج إلى الجهة الثانية من التلة، خطواتنا كانت مثل قفزات فهد واثب، لا شيء يثنيه عن الوصول إلى فريسته، بسرعة عالية تقدمنا نحو التلة، رمينا بأنفسنا إلى جهتها الثانية، أزيز الرصاص وصوت انفلاقه وهو يرتطم بأي شيء كان هو ما نسمعه في حينها، أخيرا بعد محاولات عدة تخطينا وابل النيران، صرنا في الجهة المقابلة للعدو تماما.

أخذنا بالتجمع في نقطة معينة، تقدم الشيخ (هاني الشمري)، كان رجلا شهما، عمامته ناصعة البياض، همته تفوق الخيال، توسَّطنا، ونحن نشكل من حوله دائرة متكاملة، فقام بإصدار أوامره بالترتيب فورا، على أن يأخذ كل واحد منا مكانه المحدد، وأن ننقسم على مجموعات مهاجمة وأخرى ساندة، تتكفل الأولى بالتوجه فورا إلى نقاط العدو على أن لا تسكت أي بندقية عن الإطلاق أبدا، وتتكفل المجموعات الأخرى بتوفير الإسناد والإسعاف إن تطلب الأمر، كانت الخطة تقتضي أن لا تبتعد المجاميع عن بعضها مسافات بعيدة؛ كي لا تنقطع السبل فيما بينهم في تلك الأرض المتموجة.

باشر الجميع بتنفيذ ما اتفق عليه مع الشيخ، تحركنا راجلين تحت غطاء النيران الذي توفره لنا القوات الساندة من الخلف، كان هدفنا الوصول إلى الساتر الأول للعدو والسيطرة عليه، ومنها الدخول إلى منتصف مواقعه بالتدريج، حينها أعطينا البادرة لأسلحتنا وانطلقنا بين طرق متعرجة وملتوية حيث تكون درجة الرؤية عند العدو صفرا، ما أن لمحت أعين العدو تحركاتنا حتى قامت القيامة بين صفوفه، التحمنا معهم في نقطة مشتركة، كان الاشتباك عنيفا لدرجة أننا لم نكن نميز موقع الرصاص واتجاهه، جهات الأرض كلها تصوب نحونا، لكن التزامنا بالخطة الرئيسة، وقدرتنا على المناورة أعطتنا فرصة أخذ زمام الأمور، حينها اكتشفنا أن عددنا يفوق العدو كثيرا، لكن تمركزه هو ما أعطى مقاتليه تلك الأفضلية، فانقسمنا على مجاميع أصغر، قمنا بهجوم كاسح ومنظم نحو المتمركزين على الساتر الأمامي للعدو، كانت مباغتة لم يحسب لها الدواعش حساباً، بعد أن أمطرنا عليهم وابل رصاص متواصل، رأينا شدة تأثير ضرباتنا على مقاتلي العدو، كنا نتقدم بسرعة كبيرة جدا، لمحنا من بعيد عربات مدرعة للعدو وهي تنسحب إلى الوراء تاركة خلفها سحبا من الغبار، بعد أن وصلنا إلى بدايات ذلك الساتر تباطأت حركتنا خوفا من كمين محتمل لمجاميع العدو، شاهدنا جثث أولئك الظلاميين وهي تنتشر على الساتر، هرب رفاقهم الباقون نحو أحراش منطقة (ألبو عجيل)، أما الباقون فكانوا كلهم أمواتا.

سيطرنا على هذا الساتر، فرحة الانتصار غطت على أعيننا لنفاجاْ بعدها بالعدد الكبير من رفاقنا المقاتلين وهم يعانون جروحا بليغة، تداركنا الأمر فقررنا نقلهم على وجه السرعة إلى المقر الخلفي من يتلقون الإسعافات الأولية، كانت هذه مهمة إحدى المجاميع الساندة التي معنا، بعدها قمنا بتنظيم الساتر الأمامي للعدو فجعلناه ساترا لنا، كان الساتر القديم قد تهالك بفعل المعركة الأخيرة، قمنا بترميمه جيدا، مستفيدين من طبيعة الأرض العالية التي كان قائما عليها، ومن بعض الأكياس العسكرية التي أفرغت من حمولتها وملأناها ترابا وحصى قمنا برصفها جنبا إلى جنب لسد ثغرات الساتر، كنا ننتظر وصول بقية القوات الأمنية من الحشد الشعبي والشرطة الاتحادية، لذلك كان علينا توفير غطاء أمني يسمح بمرور عرباتهم وآلياتهم بسلام تام.

بعد أن ضمنا السيطرة على الخط الأول من خطوط دفاع العدو، كانت المنطقة بأجمعها تحت نيران أسلحتنا، لذلك أدى هذا الأمر إلى تخلخل قوى التمركز في صفوف العدو، فقد وقعت المنطقة بكماشة قواتنا المهاجمة التي تحاصرها من ثلاثة جوانب، وهو ما أدى بالعدو أن يستعيد طرقه الملتوية في الحروب التي طالما استخدمها ضدَّ قواتنا العسكرية في كل مكان، فصار يبعث لنا بقوات العرقلة، مجموعات من الانتحاريين يقودون سيارات مفخخة تروم مهاجمتنا بسرعة مباغتة فتعيق تقدمنا نحو مخابئهم، فرض علينا هذا الأمر أن نكون يقظين وعلى حذر دائم، فالعدو لم يكشف عن كل أوراقه إلى الآن..!

حينما انتصف النهار وقع ما كنا نحذر منه، فبينما انشغل بعضنا بالصلاة والبعض الآخر بترتيب المستلزمات الضرورية، جاءنا نداء مستعجل وبصوت عال من المقاتلين الذين أوكلت لهم مهمة الرصد والمتابعة من أعلى الساتر الأمامي، كان الصوت يتعالى بصورة كبيرة، يحذرنا من قدوم سيارة مفخخة نحونا، دبَّ النفير العام بين صفوف المقاتلين، كل واحد منهم أخذ دوره حسب موقعه القتالي، السيارة تسير بسرعة جنونية، بهيكلها المعدني الصلب تتحرك مثل كرة نارية ألقيت من سفح شاهق، اقتربت السيارة كثيرا منا، سمعت هدير محركها، وحركة عجلاتها كانت تحفر الأرض كي تصل إلينا، كنت حينها بأشد حالات التضرع والدعاء، وجهت جبهتي نحو السماء، لعلَّ الله ينجينا وأخوتي المقاتلين من هذا الوحش المسعور.

الله سبحانه وتعالى لم يتركنا، وكان معنا في هذه اللحظة بما لكلمة المعجزة من معنى، فالساتر الذي اجتهد المقاتلون في بنائه كان عاليا بحيث لا يعطي أية فرصة لهذا الوحش القادم من أعماق الظلام بالتسلل نحونا، كنا نلوذ خلف تلك التلة الترابية التي أطلقنا عليها فيما بعد بساتر الانتصار، الوجوه شاحبة تماما، كنا نستمع لزمجرات محرك السيارة المفخخة التي تحاول جاهدة عبور الساتر والوصول نحونا، تراءى لنا مشهد مقاتل شهم يلبس البياض ويشمِّر عن ساعديه، يقف على الجهة المقابلة للسيارة المفخخة يدفعها في كل مرة إلى أسفل الساتر كلما حاولت الصعود، في نهاية المطاف دوت صرخة مخيفة لا نعلم مصدرها هل هو محرك السيارة الذي وصل إلى أقصى درجاته أو هو شيء آخر لا نعلم بالضبط ما الذي يجري خلف ظهورنا، سمعنا بعدها دحرجات السيارة وهي تنقلب على ظهرها للخلف، انفجرت في نهاية المطاف مخلفة دمارا هائلا بكل ما يحيط بها في تلك اللحظة، كنا نلتصق بالساتر بشدة كي لا تصيبنا بقايا ذلك الوحش المعدني، لم نصب بخسائر معينة سوى مقاتل شهم من الشرطة الاتحادية، نجونا بأعجوبة بالغة، وتيقنا أن ساتر الحقِّ أعلى من شراك العدو كي تخترقه وتتسلق عليه.