طينة حرَّة

{ المصدر : الموسوعة التوثيقية الكبرى لفتوى الدفاع عن عراق المقدسات }

لا بدَّ للجميع من استراحة مؤقتة بعد جولات القتال الدامية، الجرحى والمصابون هم أول المعنيين بمثل هذه الاستراحات، كانت اللحظات تتابع على الساتر الأمامي، إذ لا مجال لأي تراجع أو استراحات ونحن نواجه الدواعش، كنا في منطقة (جرف النصر) إذ المعارك لا تدع مجالا لأي تفكير بالراحة أو إغماض العين، بل ما يطلب منك هو التهيؤ دائما لاستقبال المجهول، كان يرافقني حينها قناص شاب وكان غاية بالمهارة والدقة في قنص العدو.

كنت أتعجب من قدرة (أحمد ناصر) على اتخاذ قراره الحاسم برمي إطلاقة القناص بالوقت المحدد، مهارته حدَّت كثيرا من تنقلات العدو في منطقة النباعي، يقينا أنه تدرَّب طويلا حتى وصل إلى ما وصل إليه. في إحدى المعارك واجهنا تعرض كبير من قبل قطعات العدو، كأنهم يرومون مكان (أحمد) صديقي القناص، كنا نواجههم من الأرض، و(أحمد) فوقنا يشاغلهم من الأسطح العالية للمنازل، فجأة تحوَّلت النار إلى الأعلى، أفراد العدو كلهم دفعة واحدة يطلقون النار نحوه، لا يعبؤون بنا ونحن نطلق عليهم، كان هدفهم الأساس هو القضاء على مصدر النيران المتواجد أعلى البناية.

بعد شدٍّ وجذب استطعنا وبفضل ضرباتنا القوية من كسر هجوم الدواعش، تراكضنا نحو (أحمد)، لنعرف ما الذي حلَّ به، فور صعودنا نحو السطح وجدنا أحمد وهو يستند على الحائط، كان يئن من شدَّة الألم، لقد أصيب بقدمه إصابة بالغة، نقلناه مباشرة إلى أقرب مشفى ميداني، حاولوا إيقاف النزيف الذي أرهقه كثيرا، بعدها تمَّ نقله إلى مشفى أكبر، إذ أجريت له عملية كبرى أفضت إلى بتر ساقه، كان يتألم من منظره كلما زرته، يقول لي: «لو لا هذه الإعاقة لكنت معكم الآن ننجز ما بدأناه ضد الدواعش»، كنت أشاهده يجلس على كرسي متحرك لا يستطيع الوقوف، استشعر ما يمر به من غصَّة لعدم التحاقه بزملائه في الجبهة.

كنت قد نسيت (أحمد) بعدها، بفعل المعارك المتوالية علينا، كنا لا نعرف الليل من النهار ونحن نحسب حسابا لكل شبر ما زال الدواعش يسيطرون عليه، لذلك فقد تناسيت كل شيء تقريبا، أنفذ واجباتي دون كلل أو ملل، مرَّ وقت طويل دون أن أحدث (أحمد) أو أطمئن على صحته، ها أنا الآن أحظى بفترة استراحة قصيرة، تذكرت أحمد في هذه الليلة القاسية علينا بفعل المعركة التي انتهت توًّا مع الدواعش، اشعر أن هاتفي يرن، سحبته بسرعة، نظرت إلى الاسم، وإذا به (أحمد):

- أبن حلال، الآن كنت أفكر فيك يا أحمد، كيف حالك؟

- خالي، أنا لست بخير والله، المهم حمدا لله على سلامتكم، كيف هي المعارك، أخبرني بكلِّ شيء يا خالي.

كان (أحمد) مثل أقرانه الآخرين من هم في عمره تقريبا، توقيرا لي واحترما لعمري يلقبوني بالـ(الخال).

- حبيبي (أحمد) الأمور بخير والشباب كلهم يسألون عنك، ويفتقدوك في هذه المعارك، لا تقلق كل شيء على ما يرام.

- الحمد لله خالي لقد ارتحت الآن، ولكن لماذا تركتموني وحدي بين جدران هذه الغرفة الموحشة، مكاني ليس هنا، بل معكم الآن في الحرب، حيث أسند قناصتي على ظهري وألتقط الدواعش.

- أحمد، لقد قمت بواجبك وضحيت بما تملك، وجاء من يسد مكانك ويكمل مسيرتك، الآن ما عليك سوى أن تتعافى سريعا.

- خالي، لا تؤذني بكلامك هذا، أنا الآن بأفضل حال والله، لقد ركَّبوا طرفا اصطناعيةً لقدمي، أسير بشكل صحيح، وأريد أن أطلب منك الالتحاق معكم، أستحلفك بالله وبالإمام الحسين (ع) أن تأخذوني معكم، لا أطيق الانتظار أبدا.

كنت أستشعر بأن (أحمد) يبكي الآن، هذا الشاب القوي والجريء جدا يتهاوى في هذه اللحظة أمام أمنية إكمال جهاده، لا أعرف ما العمل، ولكني أجبته أني سأحاول أن أستدعيك حينما تسنح الظروف، هؤلاء الشباب حينما جربوا طعم الجهاد وقتال الدواعش، صار كلَّ شيءٍ في أعينهم لا يساوي دقيقة على الساتر.