مكَوار العزِّ
أجدادنا هم الذين خلقوا في أنفسنا صفة المقاومة، حينما كانوا يواجهون طائرات المحتل وأسلحته الحديثة والمتطورة آنذاك، واجهوا كلَّ تلك الجيوش بفاله و مكَوار صغيرين، لكن عزيمة أجدادنا أكبر من ترهبها زمجرات محتل يحاول أن يغتصب أرضهم، لذلك فنحن مثل أولئك الأجداد لا نهادن أبدا على أرضنا مهما اجتمعت قوة العالم بأجمعه.
في صباح أحد الأيام دخلنا منطقة (عامرية الفلوجة) مع وفد (لجنة الإرشاد والتعبئة) المسؤول عن تبليغ المقاتلين ومشاركتهم في جبهات القتال، ورفع روحهم المعنوية وشحذ هممهم، وبينما أتطلع للمقاتلين وأبادلهم التحية والسلام، لفت انتباهي رجل طاعن بالسن مع إحدى المجاميع المتواجدة هناك، أعتقد أن عمره تجاوز التسعين، بلحيته البيضاء وظهره المنحني، وبملامح وجهه التي تحكي عن سنوات مضت، كان هذا الشيخ الكبير في السن يحمل (مكَوارا)، وهو عبارة عن عصا خشبية في نهايته كرةً دائريةً صلبة مصنوعة من مادة القار. أخذني الفضول إلى التحدث إليه، سلمت عليه وصافحته، وجلست إلى جانبه، فقلت له:
- ما الذي أتى بك يا عمَّاه وأنت على ما أنت عليه من الشيخوخة وثقل الحركة؟ هناك شباب غيرك تحملوا المسؤولية عنك وعن الجميع.
التفت إليَّ، وشعرت حينها إنه سيبدأ بالبكاء، لكنه تماسك، وأجابني قائلا:
- اسمع يا شيخ، ليس وحدكم من سيغتنم الأجر بهذا الجهاد، فنحن مشمولين بالمجد، فهو متاح للجميع.
ثمَّ استدرك قائلا: آه دعني أحكي لك حكايتي يا بني، لقد ولدت بعد ثورة العشرين بسنوات قليلة، كنت استمع في طفولتي لحكايات أمي عن تلك الثورة، كانت تحدثني عن شجاعة أبي وأعمامي وأخوالي في مواجهة العدو، حيث كانوا يقاتلون بأسلحة بسيطة ولكن عزيمتهم كانت أكبر وأشد من أن ترهبهم معدات العدو وجيوشه، أنت تعلم يا شيخنا إن تلك الثورة كانت نتيجة الفتوى المقدسة التي صدرت عن علماء النجف في ذلك الوقت، كنت أتحسر كثيرا حين استمع لهذه الحكايات، تمنيت لو كنت معهم، لو أني قاتلت إلى جانبهم، كبرت ولم أنس ما حدثتني به أمي، ومنذ تلك اللحظة وأنا أتمنى لو تسمح لي الفرصة في خوض الجهاد.
كنت أستمع إلى كلام هذا الرجل وأنصت بشكل جيد، شدتني حماسته وهو يتحدث عن حكايات طال عليها الزمن، قال لي: اعتذر لو أزعجتك، أجبته بسرعة: لا يا عماه.. ليتك تكمل لي.
حسنا كما قلت لك يا شيخ منذ ذلك الوقت وأنا أحلم بالمشاركة بالدفاع عن المقدسات قبل أن يأخذ الرب أمانته، وقد تحققت أمنيتي ففي عام 2014م كنت جالسا في بيتي حين سمعت الناس والأخبار تتحدث عن فتوى الدفاع التي أطلقتها المرجعية في النجف، دمعت عيناي حينها، وقررت المشاركة مهما كلفني الأمر، لقد واجهت معارضة كبيرة من قبل أبنائي، هم في عمرك أو يقاربون، قالوا لي: الشباب كلهم هبوا للقتال، وأنت لا تقدر على الحركة، ستكون عبئا عليهم يا أبي. فأجبتهم بإصرار على المشاركة مهما يكن، ومن حينها وأنا هنا أشارك مع هؤلاء المقاتلين الذين هم بمثابة أبنائي نشوة انتصاراتهم وفرحة شجاعتهم، لكني لا أحمل السلاح لضعف بدني، ولكن أحمل هذا (المكَوار) الذي ورثته عن آبائي، أرتجز فيه أمامهم فأشعل فيهم الرغبة والمواصلة والفرح للقتال، بثَّ في أوصالهم الوثَّابة الروح العظيمة.
بعد أن أكمل كلامه، شكرته كثيرا واستأذنته بالرحيل، رجعت إلى حيث يكون المقر العسكري، وأنا أفكر بهذا الرجل الشهم و(مكَواره) الخالد.