المكافأة

{ المصدر : الموسوعة التوثيقية الكبرى لفتوى الدفاع عن عراق المقدسات }

تتفاوت منزلة الإيمان بين شخص وآخر، فالجميع لا بدَّ لهم من عصرة اختبار قوية لكي يتمايزوا فيما بينهم بدرجات اليقين العالية. فالوطن، والمقدَّسات، والأعراض، اختبارات لبيان الإيمان من عدمه، فإذا ما تعرَّضت لخطر مصيري، فإنَّ الجميع يكونون بحاجة لشحذ إيمانهم، وإظهار يقينهم تجاه مقدساتهم التي يؤمنون بها وإن كان هذا الأمر يكلفهم كثيرا من البذل والسخاء بالمال والأنفس والطاقات.

الطاقات التي لا يجب أن تنفذ بأسباب وأعذار غير مقبولة، فغيمة الوحوش تقترب من أسوار الوطن، لا بل إنها تسلقت جدرانه كي تفتك بموجوداته جميعا، نحن لا نبحث إلا عن إسناد معنوي في أحلك الظروف وأصعبها، كلمات التحفيز تمتلك قدرة هائلة في إشعال حماسنا للمواجهة والدفاع، ولاسيما إذا صدرت تلك الكلمات ممن هم أقرب إلينا، الأهل، الأصدقاء، المجتمع، كلهم يرفعون أياديهم تضرُّعا للسماء كي يكون الله معنا دائما، يسدِّد ضرباتنا، ويأخذ بنا لكل ما هو خير لنا، لكن بعضهم يأخذه الخوف بعيدا في متاهات مظلمة، يحاول جهد الإمكان صدَّنا ومنعنا من الذهاب نحو المعركة، لا يفهم ما تعنيه الأرض لنا، كل ما يريده هو أن يرانا إلى جانبه، ما يخلق عوائق مصيرية في طريقنا.

لا أعرف لم أربط حديثي السابق مع حادثة صديقي السيد حيدر، فقد واجه هذا الرجل اختبارا مكلفا ومصيريا بين تطوعه في تشكيلات الحشد الشعبي وبين المحافظة على رابط أسرته، سيد حيدر كان أبا للجميع ومنهم ولدي حسين الذي كان يقاتل تحت إمرته، لقد سمعت بعض الأحاديث حول مشاكل عديدة خاضها الرجل مع أهله، ولكني اليوم معهم هنا في مقرِّهم، حاولت أن أتواصل معه، كان قريبا مني  بيد أنه منشغل، لا يستطيع ترك واجبه، فمقرهم لا يبعد سوى بضعة كيلومترات عن خطوط العدو في مدينة (الكرمة) الملتهبة دائما، بعثت بطلب السيد حيدر كي أسلِّم عليه، وأجلس قليلا معه، انتظرت قليلا وإذا به يقدم نحوي بابتسامته المعهودة، التي يخفي وراءها ألماً يعرفه المقربون منه.

جلست إلى جانب السيد، سألته عن أحواله، تبادلنا الحديث والتشجيع معا، كنت خائفا من أني سأتسبب له بجراح أخرى حين أفاتحه بما وصل إليه أمره مع أسرته، قررت السكوت وعدم التطرق للأمر، ولكنه التفت نحوي قائلا: «ألا تريد أن تعرف ما وصلت إليه الأمور يا أبا حسين؟» ، حينها علمت أن الرجل يريد أن ينفِّس عن نفسه، يحاول أن يتحدَّث لكي يزيح عن قلبه غيمة الحزن التي تحيط به.

- أحاول أن لا أستثيرك سيدنا الحبيب، فأنت وكما أرى في وضع صعب، والمعارك متواصلة ومستمرة الآن، فما الطائل من حديثنا..!

- لا أبدا يا أخي، المعارك هنا أرحم بكثير، العدو هنا أمام عينك، تميِّزه بدقَّة، تعرف أنك متجه إليه، فلا طعنات من الخلف أبدا، دعني أروي لك ما حدث ..

بعد صدور الفتوى المقدَّسة   التي توجب قتال الدواعش وطردهم من البلاد، قرَّرت التطوع في تشكيلات الحشد الشعبي، الأمر الذي لم تتقبله زوجتي مطلقا، كانت خائفة من أن أموت وأنا أقاتل، كنا في شجار دائم بسبب هذه القضية، توسَّعت الفجوة بيننا كثيرا، لم يقنعها كلامي بأن الحشد هو حياتي التي لا بدَّ من أن أعيش تجربتها، ولم تثنِ هي من عزيمتي على المواصلة، تفاجأت بعدها بتدخُّل أهلها غير المشروع بقضيتنا، والدها ووالدتها أصبحت مكالماتهم شبه يومية لي، كانوا يهدِّدونني دائما بأن أترك الحشد أو أني لن أرى زوجتي ثانيةً. كنت أرفض كلامهم بقوة، وفي يوم ما ذهبوا إلى المحكمة ليطلبوا التفريق بيني وبين زوجتي غيابيا، كنت حينها في جبال مكحول مع فوجي الذي يتقدَّم هناك، صعقت من سماع هذا الخبر، لم أكن أتواجد في البيت لذلك لم أستقبل تبليغات المحكمة التي كانت تتوالى على منزلي، في إحدى الإجازات لم أقض سوى ليلة واحدة في داري، بسبب سماعي أن أصحابي يتعرضون لهجوم مفاجئ في جبال مكحول، قررت أن ألتحق صباحا قاطعا بذلك إجازتي، حينها حزمت أمتعتي في الصباح وخرجت من منزلي، لم أكن أخطو قليلا حتى قابلني الشرطي المكلَّف بتبليغي، كان يجيء في كل مرة لمنزلي ولم يجدني فيه، مما سبب له حرجا أمام القاضي الذي عنَّفه بشدَّة واتهمه بالتواطؤ معي.

- سيدنا السلام عليكم، الحمد لله أني وجدتك أخيرا.

- وعليكم السلام، خيرا؟

- لقد جئتك مرارا ولم أجدك في المنزل، أنت مشغول دائما بالجبهة، سيدنا معي تبليغ من المحكمة ولا بدَّ من أن تستلمه.

قررت الذهاب مع الشرطي نحو المحكمة، دخلت باحة المحكمة بقيافتي العسكرية كاملة، شاهدت زوجتي وأهلها معها في تلك اللحظة، تسارعت الأمور حتى تم إدخالي على القاضي المعني بقضيتي مع زوجتي.

- أنت حيدر..؟

- نعم.. أنا حيدر يا سيادة القاضي.

- أين تعمل الآن..؟

- مجاهد بالحشد الشعبي في لواء علي الأكبر.

- حيدر لماذا لم تستجب لطلب استدعائك للمحكمة من قبل؟

- أستاذ لم أكن أتواجد في البيت، والشرطي الذي يأتي لتبليغي لم يكن يجدني هناك، فأنا في الجبهة أغلب الأحيان.

- حيدر زوجتك طالبت بالتفريق، هل تعلم بهذا؟

- نعم أعلم بذلك، ولكن لو سمحت لي أن أبلغك لم تطلُب زوجتي أمرا كهذا، هي تطلب التفريق لأنها لا تريدني أن أذهب إلى الحشد.

- وأنت ماذا تقول الآن، ما قرارك يا حيدر؟

- أستاذ أعتذر منك، ليس لدي وقت لهذا الأمر، فأصحابي يتعرضون لهجوم قوي هناك في جبال مكحول، أستغرب من المعادلة التي تضعها زوجتي (إمَّا أنا أو الحشد)، أرجوك أسمعني أستاذ: الحشد هو ملاذنا الأخير الذي من خلاله نحافظ على وجودنا، ولولا هؤلاء الشباب الذين تشاهدهم على التلفاز وهم يقاتلون بكل حماسةٍ ضدَّ الدواعش لما سارت الحياة كما نريد، لما كنَّا أنا وأنت وزوجتي وأهلها هنا نتجادل بكل حرية في هذا المكان، لقد ذهبت للحشد كي أدرء عن زوجتي وأطفالي خطر الوحوش التي تفتك بالجميع، كي أبعد عنهم الخطر كي يناموا بأمان، وزوجتي تردُّ لي الجميل بقولها: إمَّا أنا أو الحشد..؟! كان الأولى بها أن تساندني، أن ترفع رأسها بي، لا أن تجرجرني إلى المحاكم كي تتخلَّص مني أليس كذلك يا سيادة القاضي..؟ على العموم أرجوك افعل ما تريده زوجتي، طلِّق.. طلِّق.. طلِّق يا أستاذ لأن الحديث لن يجدي نفعا مع أيٍّ منَّا.

التفت القاضي بعدها نحو زوجتي وأهلها قائلا لهم: «والله لن تجدوا مثل هذا الرجل في هذا الوقت، أنتم مخطئون، حاولوا أن تراجعوا قراركم»، لكن إصرارهم أعماهم عن الأمر، حينها ما كان من القاضي سوى أن أعلن عن طلاقنا، ثمَّ التفت بعدها نحوي قائلا: «اذهب يا بني، كان الله في عونك وحماك من كلِّ مكروه وكافأك بحورية من الجنة».

حينما قصَّ السيد حكايته عليَّ كنت مشدوها لا أعرف ماذا أقول، انتبهت نحوه كان يتأمل السماء، كان يفكِّر بشيء لم أكن أدركه، بعدها تمنيت له الخير وعدت إلى موقعي، بعد أيام قليلة، سمعت أن السيد حيدر أستشهد إثر انفجار عبوة ناسفة، الآن أتأمل «حيدر» وهو يطلّ علينا من السماء، أخمّن الآن وجهه مبتسما كعادته، يستريح من هم الدنيا في ظل شجرة آسرة من أشجار الجنة، وقد استذكرتُ كلمة القاضي الأخيرة حين دعا له أن يكافئه الله بحورية من الجنة.