الساتر الأهم

{ المصدر : الموسوعة التوثيقية الكبرى لفتوى الدفاع عن عراق المقدسات }

خيط رفيع جدا هو الفاصل بين الشجاعة والتهور، البسالة والتخبط، الصبر والانسحاب، هذا الخيط يتسع بمرور الوقت في حالة الاختبار القصوى، الحرب كفيلة بإظهار معادن بعض الرجال وحكمتهم وشجاعتهم، كفيلة بكشف البعض الآخر، الغادر، المستبد، المنهزم. بين هذا الطرف وذاك، تقترب المسافات المكانية ليصعب التمييز، لكن للحقيقة وجه واحد، وجهها الذي يؤكد على أن الحياة بشرف تستحق التقدم نحو الأمام، تستحق التشبث بكل شيء، بالشجر، بالتراب، بالماء، بالهواء، فهذه كلها مسميات لكلٍّ أعظم اسمه الوطن.

تلة ترابية كانت هي الحدُّ الفاصل بيننا وبين مخابئ العدو، حيث انقسمت منطقة (ألبو شجل) إلى نصفين قطع بينهما هذا الساتر، كانت الأوامر تقضي بتحركنا إلى هذه المنطقة لتحريرها من الدواعش، كانت هذه المنطقة هي الممر الأول نحو مدينة (الصقلاوية) في محافظة الأنبار، لذلك كانت تكتسب أهمية مضاعفة، وهو ما زاد من صعوبة الوضع فيها؛ نظرا لأن العدو قد استنفر قواعده وقطعاته العسكرية كافة لأجل أن لا تقع (ألبو شجل) بيد القوات الأمنية، زد على ذلك إنَّها منطقة بساتين وأحراش، وفيها من الأنفاق العدد الكبير وهو ما يسهل من اختباء العدو وتواريه عن أنظارنا وفي هذا صعوبة أخرى بطبيعة الحال.

بعد أن تمركزت قواتنا خلف ذلك الساتر حتى بدأنا مباشرة بتجهيز مواقع المراقبة والرصد، كان الليل يهبط بسرعة، وهو ما يقتضي سرعة بإنجاز المهام، صوبنا فوهات أسلحتنا نحو البساتين، حيث الجانب الآخر من الساتر، وما أن انتصف الليل حتى أخذت تعلو أصوات الأسلحة بمختلف صنوفها، كان الوضع خطرا للغاية، فالعدو مستتر، والليل بهيم جدا، لكن برغم ذلك تواصل المقاتلون بالرد على أي مصدر للنيران ومن أي اتجاه كان، قدرنا المسافة التي تفصلنا عن العدو فهي لا تزيد عن ثلاثين مترا، تداخلت أصواتنا مع أصواتهم، لا شيء يرى سوى وميض الرصاص وهو يختطف الجانبين. المعركة تتواصل ونحن لا زلنا نقاوم، كان هجوما عنيفا ومباغتا من قبل العدو، فقدنا العديد من المقاتلين الذين سقطوا بين شهيد وجريح، لم نتوقف مطلقا، كنا نحاول جاهدين كسر الطوق الذي فرضه علينا العدو. يساعدنا في ذلك هذا الساتر الذي نحتمي خلفه.

مع تقدم الوقت، الساعة تشير إلى الثالثة فجرا، مرت على بداية المعركة ما يقارب الساعتين، ومع مرور الدقائق تزداد حدة المواجهات، أقترب الجانبين من بعضهما بصورة كبيرة، تحولت المعركة إلى تراشق بالقنابل اليدوية، والكل يستند على ذلك الساتر، العدو يريد أن ينقض عليه فتقع المنطقة بيده تماما، ونحن نريد المحافظة عليه كي لا ننكسر بعد فقدانه. تواصلنا مع القوات التي كانت ترابط خلفنا، طلبنا منهم الدعم والإسناد، لكن الرد كان يأمرنا بالانسحاب من الساتر، حتى يتمَّ تربيع الساتر بالمدفعية، كانت خطة غير ناجحة بالمرة وذلك لوجود العديد من الشهداء والجرحى قريبين من الساتر وقد تنهيهم المدفعية حينها، إضافة لذلك فإن الانسحاب معناه التنازل تماما عن هذه المنطقة، وجعل المبادرة بيد العدو، وهو ما ينتج عنه تقهقرا على مستوى معنويات المقاتلين، هذه الأفكار كانت تجول بخاطر القائد الميداني الذي كان مسؤولا عنا في تلك اللحظة، إذ ردَّ على أمر الانسحاب بالقول: أرفض مطلقا فكرة الانسحاب، فقد تسقط المدينة كلها بيد داعش، وقد أخسر التقدم الذي أحرزته قطعاتي العسكرية، وهو ما يعني التضحية بأصحابي، أطلب منكم أن ترسلوا إسنادا وعلى وجه السرعة.

تواصل القتال في ظل تلك الظروف، كنا خمسة عشر معمما من رجال الدين، أحسسنا أن تواجدنا مع المقاتلين بمثابة دفع معنوي هائل، فقد كان الشباب يتخطفون بيننا وهم فرحون جدا، كنا نتوجه إلى الساتر دفعة واحدة، حينها أطلق أحد الشباب أهزوجة يقول فيها: (ساتر حيدر ما ننطيها..)، مع ترديدها وصل القتال إلى ذروته، كانت مقاومة لا توصف من جانبنا، تبادلنا المواقع فيما بيننا ونحن نتعاهد على ذلك الساتر.

استمرت المعركة ما يقارب الأربع ساعات متواصلة. خيوط الفجر تلوح بالسماء، صارت الرؤية أوضح بكثير عما كانت عليه، تقدم المقاتلون بعزيمة هائلة نحو العدو، تلاشت أصوات بنادق العدو، بينما جنودنا يتقدمون، فقد مني العدو بهزيمة كبيرة نتيجة صمودنا ومقاومتنا، بعدها تحررت منطقة (البو شجل) نهائيا، وصارت ممرا آمنا نحو الصقلاوية وغيرها من المناطق الساخنة في محافظة الأنبار في تلك الفترة.