ردُّ الجميل
وصلت قواتنا البطلة إلى منطقة كانت قد سيطرت عليها عصابات داعش، سابقا هنا انكسرت معنويات جيشنا ، لكن نحن هنا مجموعة كبيرة من قوات الحشد الشعبي استعدنا هذه المنطقة. رحنا نحاول البحث عن ناجين في هذه المنطقة ولكن دون جدوى، هذه الأرض تمتد على سعة الأفق، صحراء لا حدود لها، كل شيء يخبرنا أن لا حياة ممكنة هنا مطلقا، عسكرنا في مناطق متقاربة، حاولنا السيطرة على كل النقاط السابقة. الأمر لا يخلو من مصاعب عديدة أولها غضب الطبيعة التي تنطلق من الصحراء نحونا.
في واحدة من نقاط حراساتنا راح الحديث يتكرر عن وجود كلب يكرر مجيئه نحوهم، يأخذ ما يزيد منهم من خبز أو قناني ماء ويذهب بها بعيدا، يركض مسرعا نحو مكانه المحدد، قررت أن أذهب لأنظر ما يفعله هذا الكلب حتى أتأكد من كلامهم. كنت واقفا بقربهم وبالساعة المحددة التي شخصوها لمجيء هذا الحيوان، وإذا به يأتي من بعيد، كان يقرب أنفه من الأرض ويحرك ذيله ويضربه بالأرض، يبدو مطمئنا للأفراد المرابطين على تلك السيطرة، رميت له بقرص من الخبز، ركض نحوه بسرعة خاطفة وذهب بها إلى مكانه، ثمَّ عاد مرة أخرى رميت له قنية ماء التقطها وذهب، هنا ثارت شكوكي كيف سيفتح هذه القنينة ويشرب، لذلك قررت أن أذهب خلفه حتى أعرف سرَّه، حذرني الشباب المتواجدون هناك وقرروا أن يذهب بعضهم معي.
كنا نتبع ذلك الكلب بسرعة كبيرة لأنه كان يركض ولأننا تركنا له مسافة آمنة حتى يطمئن أن لا أحد يتبعه، كنا نلهث بسرعة، المنطقة التي حررناها قريبا تبدو مخيفة جدا، أين يأخذنا هذا الكلب؟ هل هي منيتنا التي تقودنا حتى نركض بهذه السرعة؟ ولكن كان هناك شيء يدفعنا حتى نصل، رحنا نفتش المكان، اختفى الكلب فجأة، رحنا ندور بالمكان بدوائر مغلقة، حتى وصلنا إلى فتحة كبيرة، اقتربنا منها بحذر شديد، كنا حذرين أن نجد أحد الدواعش في هذه الحفرة، اقتربنا ببطء، كنا مستعدين لإطلاق النار في أية لحظة، كانت حفرة عميقة، فتحتها تبدو ضيقة نسبيا لكنها تكفي لدخول شخص رشيق البنية، فتحنا مصابيحنا نحو الحفرة. كانت المفاجأة أن هناك جسدا ممتدا في تلك الحفرة، أطلقنا أصواتنا منبهين ومحذرين على صاحب الجسد أن يخرج دون مقاومة، هنا تحرك ذلك الجسد، كان يبدو رجلا متوسط العمر، عدَّل من وضعه وأخذ يزحف نحو الفتحة، تراجعنا قليلا حذرا من أن يكون مفخخا، أخرج رأسه من الفتحة، وبعدها سحب جسده بصعوبة بالغة، وضع يديه على رأسه، حالته يرثى لها، شعره أشعث، يبدو أنه منذ زمن طويل في هذه الحفرة، بدا عليه الارتياح وهو ينظر لنا، استغربت ارتياحه هذا، تقدمت نحوه، وأخذت اكلمه:
- من أنت وما الذي جاء بك إلى هذه الحفرة؟، حدد هويتك بسرعة.
- أنا أحد أفراد الجيش العراقي، كنت أختبئ هنا منذ مدة طويلة، منذ أن سيطر الدواعش على كل شيء، لقد قتل أصحابي جميعهم، انكسرت فرقتنا العسكرية، لم أجد ملاذا أكثر أمنًا من هذه الحفرة.
هنا أصابتنا الدهشة جميعا، أخذنا نحدق بوجوه بعضنا البعض غير مصدقين ما نسمعه، ماذا تقول؟، تعال واسترح قل لنا كيف استطعت الصمود في هذه الحفرة، حدِّثنا لأن ما تقوله لا يصدق..!.
- كنا نعسكر هنا، وكنت أساعد كلبا قريبا من هذه المنطقة، كان يتردد عليَّ يلتقط ما يزيد عن حاجتي من الطعام، كنت أقرب له الماء كي يشرب، كان يلعب ويلهو هنا بقربنا، أوصيت أصدقائي بعدم التعرض له مطلقا لأنه ضيف عليَّ، أنا عدته هكذا، كان زملائي يقولون لي أن هذا الكلب لا يأكل ولا يشرب ويبقى صامتا حزينا طوال أيام إجازتي، كان يشم رائحتي من بعيد فيركض لاستقبالي حينما أعود للدوام، كان يلعب ويقفز أمامي، وأنا كنت أضحك طويلا. حينما بدأ هجوم الدواعش علينا وكان هجوما مباغتا وكبيرا، قاومنا بضع ساعات ولكن نيرانهم كانت أقوى، بعضنا سقطوا ضحايا والبعض انسحب مسرعا نحو المقر الرئيس، بقيت وحيدا في نقطتي حاولت اللحاق بالمنسحبين ولكن من دون فائدة.
هنا قاطعته مستفهما عن استحضاره لحكاية الكلب وهو يتحدث لنا عن قتالهم مع الدواعش، قلت له: أظن أن حديثك غير مترابط، ما شأن الكلب بحربكم مع الدواعش، بانسحاب بعضكم، نظر نحوي وقال لي:
- أرجوك دعني أكمل، بقيت وحيدا في تلك المنطقة، كنت أختبئ خلف ساتر ترابي، رأيت الدواعش وهم يجهزون على الجرحى من اصحابي، كانوا ينهبون كل شيء، ويطلقون رصاصهم نحو الأعلى إشارة إلى انتصارهم، قررت أن أغادر مكاني بأسرع وقت كي لا يحسوا بوجودي ويلقون القبض عليّ، رحت أركض، كنت وأنا أركض أستمع لأقدام خفيفة تركض خلفي، أخذ الخوف مني مأخذه، وكادت أنفاسي تنقطع، كأن ضربة عنيفة أصابتني على رأسي، رأيت كلبي الذي كنت أرعاه يركض خلفي من دون نباح، وقفت كي أنتظره، اقترب مني، كان خائفا هو الآخر، راح يعضُّ ببنطلوني وكأنه يسحبني نحو مكان معين، أبعدته عني وزجرته بقوة، لكنه عاد مرة أخرى، كان يتوسلني أن أذهب معه، قررت أن اسلم مصيري لهذا الكلب، ذهبت خلفه، كان يأخذني بطرق لا تؤدي صوب الدواعش، كان يفكر بحالتي، خائف عليَّ منهم، حينها سحبني إلى هذه الحفرة، نزلت فيها مباشرة، وصار يذهب كل صباح يجلب لي ما يستطيع إيجاده من الماء والطعام.
حين أكمل حكايته، نظر إلينا، أرجوكم أن لا تكونوا قد سببتم له الأذى، هو لا يؤذي أبدا، لكن هل هو من دلّكم عليَّ؟.
- نعم، هو من دلَّنا عليك، ولولاه لما وصلنا إلى هنا، كلبكَ هذا كل يوم يأتي إلينا يأخذ الطعام والماء ويذهب به بعيدا، قررنا أن نلحق به وإذا بنا نجدك في هذه الحفرة، ولكن أخبرني أي نوع من العلاقة ارتبط معكَ هذا الحيوان؟.
- لن تصدِّق إذا ما قلت لك أنّ هذا الكلب أصبح جزءا مكونا لروحي، ذاكرتي التي تحتفظ بكل شيء مخزي عن هذه المنطقة وأنا أشاهد أصحابي وهم يواجهون أنواع التعذيب والقتل وقطع الرؤوس من قبل الدواعش لا يمكنها أن تنسى وقفة هذا الكائن الوفي معها، أرجوكم أخبروا الجميع بحكايته، إن هذه الأرض التي تخلى بعض أفرادها عن إنسانيتهم عوضها هذا الكلب بمروءة لا يمكن أن تنسى، بوفاء لا يمكنني ردُّ جميله.
بعدها وقف الجندي باكيا في وسطنا، اقتربنا منه، ولكنه ابتعد عنا، راح يطلق أنواعا من الصافرات، حينها خرج كلبه من وسط ركام بعيد، تقدم نحوه، كأنه يعرفه تماما، كنا نسير معا إلى المعسكر والجندي معنا والكلب خلفه لم يفارقه مطلقا.