الشّعار الصَّادم
القى العدو سمومه في كل مفاصل الحياة، الدين، التربية، الثقافة، كلها أهداف وجَّه لها (داعش) سهام ظلامه وسوداوية أفكاره، الشيبة، الشباب، النساء، الأطفال، الجميع منقاد لأوامره، معبَّأٌ بترسبات تاريخه العفن، إذا ما تحررت الأرض من رجس مسوخه، كيف سيتم تحرير الوعي الجمعي من أشباح أفكاره التي تهدم كل شيء؟ من سيقتلع من الأرض الرخوة أشواك ظلام تغلغل إلى أعمق نقطة ممكنة..!
بعد أن تمَّ إعلان النصر النهائي على عصابات داعش في مدينة الموصل، كنا نتحرك بشكل دوريات متواصلة من أجل تطهير المناطق من بقايا جيوب العدو التي يحتمل أنها قد تكون مختبئة بين الدور السكنية أو في الأزقة، كانت المدينة عبارة عن مدينة متهالكة، اللون الرمادي هو المميز لها في ذلك الوقت، بقايا بيوت مهدمة، وعجلات عسكرية ومدنية محترقة، لا شيء يشير إلى وجود أية حياة بأي شكل من الأشكال، أغلب المناطق كانت مهجورة؛ لأنها تقع في ضمن قواطع العمليات العسكرية، حتى الحيوانات لم نستطع رؤيتها، ومع مواصلتنا في الدورية التي كنت أحد أفرادها، دخلنا في زقاق بعيد عن مركز المدينة قليلا، وجدناه مأهولاً بالسكان، ولعلَّ بعده هذا جعله مقصد الكل تلك العائلات من أجل الهروب والاختباء من مناطق القتال العسكري وما يصاحبها من قصف.
كنت أفكر مع نفسي، كيف سيستقبلني هؤلاء الناس وقد أكون المعمم الأول الذي يشاهدونه بعد خلاصهم من داعش؟ وكيف سيتعاملون مع وضعهم الجديد ولا داعش لتحكمهم بعد الآن؟ الأهم من ذلك كله يتعلق بالأطفال الذين أشاهدهم الآن، هل لا تزال أفكار داعش في عقولهم؟ حاولت الوصول إلى أجوبة لكثرة الأسئلة التي تتزاحم في عقلي حينها، فقررت الترجل من السيارة، وأنا أعتمر عمامتي، وبالزي العسكري، ما أن وقفت قريبا من السيارة التي تقلنا حتى تجمع حولي عدد كبير من الأطفال والصبية، راحوا يلمسوني ووجوههم تشير بتحية خائفة، ابتسمت لهم، طلبت من السائق توزيع الحلوى والفواكه عليهم، فرحوا كثيرا بها، جلسوا قربي يأكلون بنهم كبير، حاولت أن ألاطفهم فقلت لهم: من الأفضل لكم نحن أم الدواعش؟ فأجابوني دفعة واحدة:
- بل أنتم أفضل منهم.
بعدها أخبرني أحد الصبية: لقد كانوا يعلمونا القتل في المدرسة، كان كل شيء يشير للقتل، المواد الدراسية كلها تدعو لجهادهم المزعوم، أتعلم يا عم حتى مادة الرياضيات كانت عبارة عن حصة في معرفة قواعد القتل، مثل أن نأخذ واجبا فيعلمنا المدرس (عبوة + عبوة = دوممم)، أما القراءة فكانت كلها تتغنى بأناشيد قطع الرؤوس، وهكذا كل المواد كنا نظن أننا في معسكر للتدريب لا مدرسة.
حينها فكرت مع نفسي، كم نحتاج من الوقت كي نزيح آثار هذا التعليم البائس عن رؤوس هؤلاء الصبية؟ إذ بدت لي دناءة العدو من تركيزه على الجانب الأول في حياة الطفولة، ألا وهو التعليم، وتحويل بيت المعلومات والسلوك الحسن (المدرسة) إلى معسكر للموت، بدل أن يتعلم الطفل فيها أساسيات الأخلاق وبدايات المعرفة، وكان لا بدَّ له أن يتقن الأدوات التي تنهي الحياة وتقضي على المجتمع...!!
استدركت بعدها إلى أنهم كانوا ينظرون إليَّ وأنا شارد بتأملاتي البعيدة، عدت إلى ملاطفتهم وقلت لهم من يحفظ منكم نشيدا حتى نسمعه منه الآن؟ رددوا جميعا كلنا نحفظ، فقلت لهم إقرؤوا بصوت واحد هيا.
اصطفوا أمامي وأطلقوا العنان لأصواتهم وهم يرددون:
سلامٌ عليكَ على رافديكَ عراقَ القيمْ
فأنتَ مزارٌ وحصنٌ ودارٌ لكلِّ النِّعَمْ