دماءٌ تروي الحياة
هناك فرق بين الأفراد العاملين في المجتمع، الفاعلين فيه، الحريصين على أمنه واستقراره، وبين الغافلين عن وطنهم، المتشاغلين عنه بأيَّة وسيلة ممكنة، في حالة الحرب يمتاز الأفراد عن بعضهم، بين من ينطلق مثل السهم كي يواجه الموت في سبيل إزاحة الظلام عن سماء الوطن، وبين من يستتر خلف أعذارٍ شتى، حتى لا يعرض نفسه لأي خطر ممكن، ولا شكَّ فالفرق واضح بين الجانبين.
كنت إلى جانب خلية الأزمة التابعة إلى لجنة الإرشاد والتعبة، وكان معي حينها كلٌّ من المشايخ طلبة الحوزة العلمية (عبد الغفار المنصوري، طعمة المرشدي، ورضا المياحي)، تجهزنا مع القطعات العسكرية التي تتجه نحو منطقة (السحاجي) في الموصل، وما أن بدأ الصباح حتى انطلقنا مع تلك القافلة العسكرية، وبعد وصولنا لمشارف تلك المنطقة حتى بدأ الاشتباك مباشرة، وبين أصوات المدافع واطلاقات الأسلحة المختلفة تواصلت المعركة، كانت من أشد المعارك خطورة وحساسية؛ لأن العدو كان قد أخذ مواقعه واستعدَّ جيدا لملاقاتنا، في تلك الأثناء وقعت عيني على الشيخ (عبد الغفار المنصور) يتنقل بسرعة فائقة بين المواقع، ويقاتل بشجاعة لا نظير لها، مما ألهب مشاعر الجنود وهم يرون بسالته، سانده في ذلك زميله الشيخ (طعمة المرشدي) وبقية الأخوة في خلية الأزمة.
الوقت يمرُّ ونحن لا زلنا نحرز تقدما سريعا وخاطفا في تلك المنطقة، وبعد أن حافظنا على مواقعنا وثباتنا عند ساتر الصد هدأت المعارك تدريجيا، فقد كان هجومنا مباغتا للعدو في التوقيت وكمية النار التي وجهت نحوه، بعدها حاولنا الدخول إلى المنطقة، فجاءت الأوامر بعدم الدخول لأي بيت، التمركز والتمشيط يكون على مستوى الشوارع فقط؛ لأن البيوت كان يشتبه بها أنها ملغومة، وبينما نحن كذلك إذ تفاجأنا بخروج سيارة مفخخة من أحد الأزقة الجانبية، تفرقنا كلٌّ باتجاه وأخذنا وضع الانبطاح على الأرض، بعض المقاتلين واجهها بالنيران إلى أن انفجرت، كان انفجارها مدويا لدرجة شعرت معها إن الأرض تهتزُّ من تحتنا، وبعد أن انجلت عنا غبرة الحطام المتطاير، وقفت كي أشاهد ما الذي حدث، راعني منظر المقاتلين الذين كانوا بصحبتي، كانوا ممددين على الأرض بين شهيد وجريح، الجثث موزعة في أطراف المكان، صراخ الجرحى صكَّ مسامعي، حاولت الاطمئنان على زملائي من المشايخ، فما كنت أتحرك بضع خطوات باحثا عنهم، إذ فوجئت بالشيخ (عبد الغفار المنصوري) جثة هامدة، احتسبته إلى الله، نبهت الشباب المتواجدين كي يرفعوا جثمانه، بعدها تقدمت وإذا بي أشاهد أحد المقاتلين يصرخ ويبكي بحرقة وهو يحتضن جثة صديقه التي قطعت إلى نصفين، لا أقدر أن أعبر عن الألم الذي اعتراني وأنا أنظر إلى تلك المشاهد، حيث امتزجت الدماء مع بعضها وتوزعت أشلاء المقاتلين في كل صوب.
أكثر ما واجهتنا من صعوبات وأشدها تعقيدا هي كيفية نقل الجرحى وجثث الشهداء الى المستشفيات، فقد كنا نأمل ببعض الجرحى بالشفاء، كنت قد ودعت حينها الشيخين (عبد الغفار المنصوري وطعمة المرشدي) لأنهما فارقا الحياة مباشرة نتيجة ذلك الانفجار، استجمعنا ما تبقى لدينا من قوة وقمنا بإخلاء الجثث من ذلك الموقع، وبينما نحن نبحث عن المتبقين صرخ أحد المقاتلين قائلا:
- تعالوا.. إنه أحد المشايخ.
حينما وصلنا إليه وجدت أنه الشيخ (رضا المياحي)، لقد كان على مسافة قريبة من السيارة الملغمة، كان لا يزال سلاحه معلقا بيده، والأغلب إنه كان يحاول صد تقدم السيارة نحونا، ولكنه استشهد على أثرها، انتشلنا جثته، ووضعناه إلى حيث كانوا إخوته الشهداء، لكني لم أنس ما حييت تلك المشاهد التي أثارها ذلك الانفجار، وتلك الشجاعة التي أبداها المقاتلون في التصدي لعربات الموت المفخخة.