يدٌ للحياة .. مخلبٌ للموت
تفترض أجواء المعارك انساقا من التعامل تكون متباينة بين طرفي القتال، وهو ما يحدث عادة حين يغلب طرف معين نسقا أخلاقيا غاية في التسامح والرأفة، في حين يكون الآخر بأشد حالات الدناءة والوضاعة، هناك يمتاز كل جانب بما يحمل من جنبة أخلاقية، وهو ما يحدث عادة في القتال الدائر مع قوى الظلام والوحشية (داعش)، ففي إحدى الليالي كان القتال على أشده مع (الدواعش) في منطقة (الرواشد) وإذا بهاتف نقال يرنُّ عند أحد الأخوة، وهو الأخ (مسلم عبد الزهرة ألبو مدلل)، كان تاجرا معروفا، وهو دائم المرافقة لقطعات الحشد الشعبي المتواجدة هناك، كان الاتصال من رجل يقطن تلك المنطقة، وهو يعرف الأخ (مسلم ألبو مدلل)؛ لأن الأخير كان يشتري البيض من دواجن منطقة (الرواشد) ويصرفها في مناطق أخرى، ردَّ الأخ (مسلم) على الاتصال فجاءه الصوت بعيدا معرفا عن نفسه، قائلا له:
- أخي مسلم، منطقتنا كما تعلم في حالة حرب وحصار في هذا الوقت، ونحن لا ذنب لنا مطلقا، أطلب منك خدمة إنسانية لو سمحت.
- على الرحب والسعة أطلب أخي العزيز.
- إحدى نسائنا جاءها المخاض، وهي في حالة صحية صعبة، ولا توجد مستشفى قريبة منا، وكما تعلم ليس بالإمكان الذهاب إلى سامراء لخطورة الطريق، فهل نستطيع أن نقدم إلى مستشفى بلد لو أنت سهلت لنا هذه المهمة من جانبك.
- أخي أنت تعرف أكثر من غيرك إن مدينة (بلد) محاصرة من جميع الجهات، فالحرب قائمة على كل اتجاه من هذه المنطقة، ولكن إن تمكنتَ من عبور الساتر مع عائلتك فأنا أضمن لك السلامة وعدم المساس بك، وسأكون باستقبالك لنأخذ المريضة للمشفى حالا.
انتهى الاتصال بين الاثنين، بعدها قرر الأخ (مسلم البو مدلل) الخروج مع إحدى النساء من محارمه لاستقبال تلك العائلة، ولعلمهم بالمنطقة فقد أخذا يزحفان بين البساتين، كانت المعركة على أشدها بينما يواصل (مسلم) والمرأة التي برفقته مسيرهما حتى يصلا بأسرع وقت ممكن، وبعد جهد كبير وصلا إلى المنطقة التي حددت كمكان للالتقاء، كانت العائلة القادمة مكونة من رجل واحد هو صاحب الاتصال وامرأتان، قام الرجل بعبور الساتر مع المرأة الحامل، أما المرأة الأخرى فقد قررت الرجوع إلى بيتها، سارت كلا العائلتين حتى وصلتا الطريق العام بعد أن قطع الجميع طرقا متشابكة بين البساتين، بعدها تمَّ نقل المرأة الحامل على وجه السرعة نحو مستشفى (بلد)، وأجرت لها عملية قيصرية، لتلد بعدها طفلا سليما ومعافى تماما، قررت العائلة تسمية وليدهما (مسلم)؛ لأنه اسم مشترك وكي يكون سمي الأخ (مسلم البو مدلل)، كانت الفرحة كبيرة بين الجميع، فقد تمَّ التأكد من سلامة المرأة ووليدها أيضا.
بقت تلك العائلة ثلاثة أو أربعة أيام معززين لا أحد يصل إليهم، ولا يسمعوا أي كلمة من أحد مطلقا، كان الأخ (مسلم البو مدلل) يتردد عليهم مع إحدى محارمه كي يطمئنوا عليهم، وينظروا باحتياجاتهم، بعد إن تم الاطمئنان نهائيا على صحتهم قرروا الرجوع إلى بيتهم، حينها أخذ الأخ (مسلم) يجري اتصالاته المكثفة من أجل التمهيد لعودتهم بسلام وهدوء، وكي يمنع أي تعرض قد يواجههم من قبل الدواعش، وحينما أخذ الأخ (مسلم) الضوء الأخضر بالتحرك، قام الجميع بتوديع العائلة وتمنوا لهم السلامة والوصول، قرر (مسلم) الذهاب معهم لإيصالهم إلى أقرب مكان من بيتهم ترافقه بذلك إحدى محارمه، خرج الجميع من المستشفى وعادوا بنفس طريقهم الذي قدموا منه عبر البساتين، كانت ليلة ظلماء جدا، لا يرى فيها النور مطلقا، انتظرنا طويلا عودة الأخ (مسلم) مع حرمه، ولكنهما لم يعودا، حاولنا التواصل معه لكن من دون فائدة، دبَّ الرعب بيننا، أجرينا عدة اتصالات مع جهات مختلفة لكن الردَّ كان يأتي واحدا هو إنهم لا يعرفوا عنهما شيئا.
في اليوم التالي قررنا التحرك نحو البساتين والبحث عنهما ما أمكننا ذلك، انطلقت قوة أمنية من جانبنا، أخذت تبحث في المسار الذي ذهب فيه (مسلم) ليلة البارحة، فجأة ذُعِر الجميع نتيجة رؤيتهم مشهد حرم الأخ (مسلم) التي كانت ترافقه لإيصال تلك العائلة وهي مقطوعة الرأس ومرمية عند الجهة المقابلة للساتر، عرفوها من ملابسها، أما الأخ (مسلم) فلم يعثر له على شيء إلى هذه اللحظة، وكل المؤشرات تشير إلى أنه تم القبض عليه من قبل (الدواعش) ولا أحد يعلم مصيره. حينها استحضرت موقف كلا الجانبين، جانب يقاتل من أجل الحياة ويضحي من أجلها، وآخر يردُّ الجميل بالقتل والقبح.