سمبل

{ المصدر : الموسوعة التوثيقية الكبرى لفتوى الدفاع عن عراق المقدسات }

كانت الأيام تتلاحق حاملة تغيرات جنونية على البلد، الجردان خرجت من مخبئها لتعلن عن نفسها بلثامها الأسود الذي تغطي به قباحة أفعالها، لكن هناك من جاهد وحاول ليميط اللثام عن تلك الوجوه القذرة، بل ويعرّي أفعالها، ويقتصَّ من (الدواعش) بطريقته الخاصة، نعم هي قضية كرامة بالمقام الأول، كرامة وطن، وعرض، وشرف، ومقدَّسات، كل شيء يهون أمام هذه الكرامة.

محمد اسماعيل الدويزي، لقبته عمته حين مولده بتسمية (سمبل)، لتنطلق معه هذه التسمية داخل محيطه العائلي حتى يوم استشهاده وما بعده، كان طالبا في المرحلة الإعدادية، في الصف السادس تحديدا، حينما شاهد بأمِّ عينيه هجوم (الدواعش) على مدينته الشرقاط وكل مدن الموصل، لا حول له ولا قوة سوى أن ينتظر ما الذي سوف يحصل بعدها، دمه يفور مثل بركان خامد ينتظر لحظة ثورانه ضد هذه المجاميع الغريبة عن مدينته ووطنه.

في إحدى المرات كان فيها (سمبل) خارج منزله، سمع من مقربين، ان الدواعش داهموا بيت عائلته، وهم يفتشون ويبحثون عن السلاح، ويحصون عدد أفراد الأسرة، حينها خرج لهم والده، وقد نهاهم عن انتهاك حرمة البيت، بعدها خرجت والدة (سمبل) خلف زوجها، وهي تلعن (الدواعش) ومن أتى بهم بكل شجاعة، وتنذرهم غضب الجبَّار وانتقامه، دفعها أحدهم بيديه، ليسقطها أرضا، وتتأذى بشدة، نتيجة ارتطامها بالأرض، سمبل كان جالسا وهو يستمع لهذا الحديث، قبل أن يعرف ما حصل بعدها وقف صارخا، ومتوعدا الدواعش بالويل والانتقام، قرر من ليلته أن يستقل أول باص يوصله خارج حدود الموصل، انقطعت أخباره لمدة طويلة عن أهله ومحبيه، سافر إلى أصدقاء له في البصرة، ، طلب منهم تأمين أمر تطوعه في الحشد الشعبي، حينها التحق بلواء علي الأكبر التابع للعتبة الحسينية المقدسة.

القلق يسيطر على أهل (سمبل)، أين ذهب، وما الذي حلَّ به يا ترى؟ لم يدَّخروا جهدا، وما تركوا وسيلة إلا وجربوها في سبيل معرفة مصير ولدهم، الأيام تمضي، والأهل لم يطب لهم زاد ولا ماء وهم يوشكون على قطع الرجاء بعودة ولدهم، كان الأب يناظر عتبة الباب لعلَّ ولده يدخل عليهم هذه المرة، الأم تواصل نوبات البكاء كلما اختلت بنفسها، حينها رنَّ هاتف الأب، الرقم غريب لكنه انتفض من مكانه شعر أن هناك خيرا بعد هذه المكالمة:

- ألو.. السلام عليكم

- وعليكم السلام.. حياكم الله تفضَّل.

- بابا.. أنا محمد.. ضحكة طويلة.. أقصد سمبل، كيف حالكم؟ طمئني عنك وعن والدتي والعائلة كلها.

- ماذا تقول.. سمبل حبيبي، أين كنت طيلة هذه المدة، لماذا لم تتصل بنا، كيف تدع والدتك بهذا الحال، «الأب يبكي بحرقة لكن دموعه تطفئ نيران انتظاره».. سمبل حبيبي قل لي ما الذي حدث معك؟

- والدي العزيز.. لقد ذهبت إلى البصرة، وأنا الآن في الحشد الشعبي، سأنتقم من الدواعش على ما فعلوه معكم، قل لأمي أن تدعو لي، قبل أن أنسى، أبي.. لا أريد لأي أحد خارج أسرتناأن يعرف عن اسمي الثاني (سمبل)، دعوه بيننا، وستشاهد بأم عينك أني قريب منكم، سألتقطهم واحدا.. واحدا.. وحقك أنت.

التفت الوالد لعائلته، بشَّرهم بسلامة ولده (سمبل)، ثمَّ دعاهم أن لا يعرف أحدا غيرهم أن ابنهم حيَّ، وأن لا يخبروا بتسمية (سمبل) أي أحد من الجيران أو الأصدقاء، هذا ما طلبه مني، ادعو له أن ينجيه الله ويسدد خطاه.

استغل (سمبل) حينها الدورات المكثفة التي خضع لها في لواء علي الأكبر (عليه السلام)، ليطور من قابليته في استخدام أنواع الأسلحة، كان حاضر البديهة دوما، يتمتع ببنية جسمانية رائعة، فضلا عن لهجته الشرقاطية التي لا تدع مجالا لأحد أن يشك فيه. حينها قابل مسؤوله المباشر، طالبا منه الاستماع إلى خطته، شرح (سمبل) خطته لقائده: «سوف أذهب إلى أطراف الشرقاط، أعرفها تماما، سأتنكر بزي الدواعش، وأدخل بينهم دون أن يلمحني أحد، سأستغل لهجة لساني بالتعامل معهم، ومنها أستطيع أن أكون قريبا من أسرتي، سيكون هذا الأمر لثلاثة أيام، وبعدها أعود إلى المقر، لكن سيدي لا تدع أحدا يعلم بما أقوم به». كان مسؤوله مترددا كثيرا من خوفه على حياة (سمبل)، يخاف عليه إذا اكتشف أمره ووقع بيد الدواعش، ما يزال شابا في بداية حياته، حينها ألحَّ عليه (سمبل) بالذهاب، فأذن له القائد.

دخل سنبل مدينته متخفيا بملابس داعشية، كان يقطع الطرق دون عائق معين، هيأته وشكله ولسانه، كل شيء يدلُّ على أنه مناصر للدواعش، حين استقر به المقام على أطراف الشرقاط حسم أمره بأن يقنص الدواعش من هناك، كان يتوغل بينهم، يقترب من مفارزهم المفردة أو الجماعية، بعدها يفتح فوهة بندقيته عليهم، كان فرحا بما يفعل، يقنصهم مثل مصيدة محكمة، يرميهم لقعر جهنم ومزبلة التاريخ، يخلص شوارع مدينته من رائحتهم النتنة، بعد أن يقوم بتصفية أي واحد من الدواعش، كان يكتب على الجدران التي تواجهه، (سمبل.. مرَّ من هنا) أو (سمبل.. كان هنا)، بعدها يختفي مع الليل الذي يجلبه لأهله، ها هو يرى والدته بعد فراق طويل، الصدمة تأخذ الموجودين في البيت ولكن هذه المرة ممزوجة بفرح غامر، يسلِّمهم ما تراكم من راتبه الشهري، ويودِّعهم بسرعة فائقة، ليختفي في الظلام مرة أخرى، الذي سوف يحمله عائدا لمقرِّه في لواء علي الأكبر، إذ زملائه الذين ينتظرونه بشوق كبير.

لم يخالجه هاجس الموت لحظة واحدة، لم يفكِّر في حياته مطلقا، إلا في تلك الليلة، حين كانت القوات تتهيأ من أجل تحرير مدينة (تلَّعفر)، حينها كان (سمبل) يتجهَّز مع زملائه، نادى عليه أحد أصدقائه أن يستعجل، لكنه ذهب مباشرة للحمام كي يغتسل، قال له صديقه:

- سمبل.. هل هذا وقت الاغتسال؟ استعجل يا رجل.

- نعم.. سأغتسل غسل الشهادة يا صديقي، لا أعرف، ولكن هاتفا يقول لي: أنها النهاية في هذا المشوار..!

خرج سمبل من الحمام والتحق بزملائه، على ظهر السيارة انطلقوا مع لوائهم وبقية القوات ليخلصوا مدينة (تلَّعفر) من الدواعش، التفت سمبل لأصحابه قائلا: «إذا ما كتب الله لي الشهادة هذه المرة، أرجوكم طوفوا بنعشي في حرم الإمام الحسين (عليه السلام) وأخيه أبي الفضل العباس (عليه السلام)»، كانوا ينظرون نحوه بعجب كبير، مازحه أحدهم مزحة ثقيلة: «ولكنك من الطرف الآخر يا سمبل، كيف تريد منا أن ندخلك للضريحين، وأنت لا علاقة لك بهما»، ضحك سمبل ومعه ضحك الجميع، ثم التفت قائلا لهم: «لم أؤمن يوما بالطائفية، أنتم أهلي، وهم أئمتي، العراق كله بيتي»، حينها احتضنه صحبه وقالوا له: «لا عليك ستعيش يا سمبل لترى فرحة انتصارنا بخروج الدواعش من وطننا».

على أطراف (تلَّعفر) توقَّفت القوات، بدأت المناوشات التي سرعان ما تحولت لمعارك ضارية، الدواعش كانوا مستعدين للمواجهة، غير أن عزيمة القوات المتقدمة من الجيش والحشد الشعبي كانت أقوى من أن تردعها أية قوة عن غاياتها المحددة، أظهر سمبل شجاعة فائقة، كان يتحرك بسرعة عالية، نيران بندقيته لم تهدأ وهو يصوبها نحو الدواعش ومقراتهم، فجأة وبعد وقت ليس بالقصير، أحس الجميع أن بندقية سمبل سكتت عن الصياح، تقدم أحد أصدقائه إلى موقعه، رأى سمبل ينزف من رأسه، لقد أصابته رصاصة قناص في جبهته، نادى زملائه، وسحبوا جثة شهيدهم الذي فارق الحياة على الفور، بعد المعركة، زفَّ سمبل ليطاف بنعشه في حرم الإمامين في كربلاء الشهادة.

الشرقاط بأكملها تتجمع عند قبره الذي دفن على تلة عالية في مدينته التي يحبها كثيرا، النساء تنذر على قبره النذور، بأن مواليدهن الجدد من الذكور سيطلق عليهم جميعا اسم (سمبل)، الكل يتذكر ذلك الشاب المنتفض في سبيل كرامته، صورهُ انتشرت في أرجاء الموصل، اسمه كان يدفع الشباب في إثره، لم يهادن في سبيل كرامته، ولم يستسلم لقدره.