زاهد وزهير
حينما تكون عظمة المواساة بقدر يجعل من كلِّ شيء صغير بإزائها، حتى الحرب تتحول مع تلك المواساة والتضحيات إلى حيز يتسع لصناعة الرجال والمواقف والبطولات، حيز يفترض خلق معادل للموت ألا وهي عزَّة النفس وإباء أنفس تعاف الضيم، حينما تتحول الحياة برمتها لاختبار يضع الفرد بمواجهة مصيره الذي يحتم عليه الدفاع أو الهرب، الظهور أو الاختباء، هنا تتجسد معاني السمو الحقيقي لدى البعض ممن امتلك شجاعة قصوى في سبيل إثبات ذاته أمام الكون.
فبعد صدور فتوى الدفاع المقدس ضد الدو اعش، كنت أشاهد بأمِّ عيني كيف تنفض البيوت أبناءها، وهي تفرغ حمولتها من الشباب والشيبة وحتى النساء والأطفال، وهم يهرولون جميعا نحو مقرات التطوع؛ كانت أحلامهم تتقافز أمامهم بأن يتخلص وطنهم من أولئك الظلاميين، عائلاتٌ بأكملها تخرج من بيوتها، الرجال يتنكبون أسلحتهم، الشباب يهرولون في الشوارع، النساء تهلهل من البيوت وتزيد من حماسة الرجال، الأيام التي تلت صدور فتوى الدفاع المقدس كانت مشحونة جدا، الجنوب بأكمله يغلي، الكل يتسابق كي يلحق بالقوافل التي تنطلق نحو المعسكرات التي ستنقلهم نحو جبهات القتال.
من إحدى بيوتات قضاء (المْدَينة) البصري، خرج الإخوان (زاهد، وزهير كاظم) يلتحقان بسرعة مع الشباب، راحوا يقطعون المسافات كي يجدوا لهم مكانا بين أخوتهم الواقفين هناك، وهم يدفعون قوى الشر والظلام بعيدا عن هذه الأرض، نتيجة لكثرة شباب (قضاء المْدَينة) المضحين فقد أطلقت تسمية (مْدَينة الشهداء) على هذا القضاء فيما بعد، التحق (زاهد وزهير كاظم) بسرعة بعد إن وجِّهت الدعوة للشباب من أجل التطوع في القوات الأمنية حماية للأرض، هناك حيث لا شيء يسمع سوى صوت الأسلحة والمدافع، وحيث الأرض تموج خلف سحائب المعارك، راح هذان الإخوان يشاركان بقية زملائهم وأخوتهم في الواجبات القتالية.
لقد كانا متلازمين بشكل لا يوصف، فقد كانا معا على الدوام، اشتركا بجميع المعارك جنبا إلى جنب، كنتُ أشاهدهما لا يفترقان أبدا، يساند أحدهما الآخر في كل شيء، حتى نزولهما في الإجازات كان في وقت واحد، ويلتحقان في آنٍ معان كأنهما شخص واحد، جسدان بروح واحدة، روح وثابة استصغرت المنايا والحرب، وتطلَّعت إلى إحدى الحسنيين النصر أو الشهادة. أشار لي القادة الميدانيون أنهم لم يعارضوا رغبة الأخوين في البقاء معا، استمرت المعارك والإخوان لم يتخليا عن بعضهما، رابط الأخوة هو ما تبقى من العلاقات الإنسانية الأخرى التي أصاب بعض جوانبها العطب، كنتُ أحدّث نفسي بهذا الكلام كلما رأيت الأخوين (زاهد وزهير كاظم) معا.
بعد عديد المعارك التي خاضاها معا، كان لزاما عليهما أن يرافقا قاطع مسؤوليتهما أينما يتجه، وهذه المرّة كانت الوجهة إلى مدينة (الصقلاوية) التي كانت على مقربة من مدينة الفلوجة، المدينة الأشد سخونة والأكثر دموية في تلك الفترة.
وبينما الإخوان منشغلان بتهيئة نفسيهما وعدَّتهما استعدادا لإحدى المعارك، فإذا بصوتٍ انفجارٍ يهزُّ موقعهما، كانت الجثث والمعدات تتطاير، كأن الأرض في حينها اهتزت وقذف بها نحو السماء، بعد أن انكشف المكان وذهب عصف الانفجار، ركضنا نحو موقع العصف، كنتُ أفكر بالأخوين المتلازمين، من بعيد لمحت جثة ملقاة على وجهها، قلبته وإذا به (زاهد) قد قضى نحبه شهيدا في تلك اللحظة، فيما أخاه (زهير) بترت يده وساقه، أصر الأخير على أن يتمَّ دفن يده ورجله مع جثة أخيه في قبر واحد، جزءٌ منه مع كل أخيه في ضريح واحد، تحيلني تلك الروح الوثّابة التي جمعت هذين الأخوين إلى تضحية الفارس الشهم (أبي الفضل العباس «عليه السلام»)، وعلاقة الأخوة التي كانت تربطه بالإمام العظيم.