مجاهدٌ في كل شيء
اليوم سألتحق بالجميع، لا بأس الحرية التي كنت أنشدها أجمل من أن أقف مكتوف الأيدي وأنا أرى أبناء مدينتي يتسابقون للالتحاق بجبهات القتال، لقد تركت وظيفتي التي يبحث عنها الكثيرون ويتسابقون من أجل نيلها، لا بأس مرة ثانية، فأنا سأقف مكان ما أريد، الحياة التي نعيشها (كما نريد) تستحق كثيرا من التضحيات، ولا أقلها أن أضحي بوظيفة كانت تدرُّ عليَّ ما أريده. هكذا كان (أمجد الوطيفي) يحدّث نفسه وهو يخرج من باب دائرته التي كان يعمل بها، الطريق الذي يبعد عن بيته كثيرا قطعه وهو يفكر بما سيفعله الآن بعد أن قرر عدم العودة مرة ثانية لتلك المؤسسة الحكومية. بعد أن استمع إلى تلك الخطبة الحماسية التي دعته ومن بعمره من كان قادرا على حمل السلاح إلى الجهاد ضد مجاميع الإرهاب والدمار لم يمرَّ يوم إلا وكان أمجد يفكر في كيفية ترويض نفسه ودفعه لها باتجاه ساحات المعركة كي يلتحق بالحشد الشعبي.
لم يستغرب وهو يدخل البيت، ويروي لأهله حادثة تركه للعمل وعزمه على الالتحاق بالحشد الشعبي، أن يواجهونه بتلك الصدمة العنيفة، كانت الألسن تتلاحق كي تثنيه عن قراره، لا أكثر من الحفاظ على وظيفته على أن يلتحق هناك في الجبهة في أوقات العطل والإجازات، لكن تصميمه وثباته كان أكبر من محاولاتهم، لذلك تركوه وما يريد. هو يستشعر خوف الأهل عليه، لكنه اتخذ قراره الصعب ولا يمكن أن يتراجع عنه، مرَّت الأيام وأمجد يجهز نفسه بعد ان انتمى للحشد الشعبي، اليوم عليه أن يغادر بيته ووظيفته وأهله، عليه أن يترك كل شيء في سبيل المشاركة في الجهاد وتلبية الفتوى المقدسة. نظرة أخيرة ألقاها على بيته ومنطقته وهو يهم بالمغادرة.
مرَّت الأيام وأمجد يتنقل هناك بين جبهات القتال، كان يستمتع كثيرا، نسي تفكيره بمصدر عيشه، وألهاه القتال عن الشعور بأي شيء إلا أن يكون أحد المساهمين في ردِّ الدواعش ودفع خطرهم عن الأرض. في منطقة الفارسية في جرف النصر بدأ أمجد حياته الجديدة، خلع عنه حياة المدنية والهدوء، هو الآن مقاتل، وعليه أن يدرك ماذا تعني تلك الكلمة بالفعل، لم ينس أمجد أن السعة التي يتمتع بها في الرزق كانت دافعا آخر لترك وظيفته، ولا ينسى معونة والده الرجل النبيل معه ومع أصحابه في الجبهة كانت دافعا آخر للقتال، كان الوالد يساند ابنه كثيرا، لم يشعره بلحظة واحدة أنه يمنُّ عليه، لا بل كان يدعمه دائما، حتى أنه طلب من أمجد في إحدى المرات ألا يأخذ راتبا نظير تضحيته فكان له ما أراد. أمجد كان ينتقل بسيارته النصف حمل (البيك آب) بين جبهات عدة، لم تفارقه تلك السيارة مطلقا. في لواء علي الأكبر كان استقرار أمجد النهائي، لم يتخلف عن أية معركة خاضها ذلك اللواء، بل إنه كان يتقدم الجميع في تلك المعارك، في إحدى الأماكن القريبة من كرمة الفلوجة، التقى أمجد برجل يعرفه، كبير في السن، جاره في المنطقة، كانوا يطلقون عليه لقب (الحاج) احتراما و وقارا، نظر أمجد إلى الحاج فذهب نحوه، بعد أن سلم عليه وسأله عن أموره، بادره الحاج قائلا:
- طمئني عليك يا أمجد، كيف حالك هنا؟.
- الحمد لله يا حاج، كيف حالك أنت..؟.
- بخير كما ترى، أنافسكم أنتم الشباب، وضحك عاليا، ثمَّ أردف، صحيح متى نفرح بك يا أمجد؟، نريد أن نحضر زفافك.
- لم يحن الوقت، إلى الآن أنتظر ولا شيء في الأفق يا حجي وحقك أني متشوق جدا لمقابلتها.
حينها علم الحاج أن ما يقصده أمجد غير الذي ذهب إليه هو، فهذا الشاب ينتظر الشهادة، في عينيه إلحاح كبير على نيلها، لقد كسر أمجد كل توقعات أهله وأصحابه، هم يلحون عليه بما يتعلق بالزواج، يجدون فيه شابا متكاملا لا ينقصه شيء سوى أن يتزوج، أمه تريد أن تفرح ووالده كذلك، الجميع يضغط عليه بهذا الاتجاه، انتقل امجد إلى قاطع تلال مكحول مع قاطعه العسكري، هناك أرسل الشيخ (الخيكاني) بطلبه، أعاد عليه الشيخ ما كان يتهرب منه دائما، إذ قال له:
- أمجد، أريد أن أعرف لماذا لا تريد الزواج؟.
- شيخنا العزيز، المسألة ليست أني لا أريد، لكن لم أحض بالبنت التي أريد.
- هذا أمر لا يصدَّق، فالكثير من بناتنا هن ممن يعتمد عليهن، لكن أظنك لا تريد الزواج فقط، وما كلامك إلا حجج واهية.
- أتمنى أن تكون زوجتي علوية النسب، وقد أبلغت أهلي أن يبحثوا لي عن أمنيتي، أرجوك أدع لي يا شيخ عسى أن أرتبط بها.
بعد أول استراحة تمتع بها أمجد واجهته والدته عند باب البيت كانت تزغرد بصوت عالٍ، احتضنت ابنها بقوة، أجلسته قربها، راحت تسرد عليه بشارتها، لقد وجدت له ما كان يحلم به ويتمناه، شابة علوية مميزة، من عائلة محترمة ومعروفة، فرح أمجد بأخبار والدته كثيرا، ودعاهم لأن يسرعوا بإجراءات عقد القران قبل أن يلتحق للجبهة ثانية، حينها لم يخب ظنه، فقد كان يؤمن بدعاء أحبته كثيرا، وها هو الله يستجيب له ويحقق ما أراده أمجد.
في بيت خطيبة أمجد تقابل الأثنان، أمجد وأهله و واصحابه من جهة، وأهل خطيبته من جهة أخرى، الصمت يسود غرفة الضيوف، الكل ينظر نحو والد خطيبة أمجد، تكلم الرجل قائلا:
- مهرها غالٍ جدا يا ولدي، أريد لابنتي مهرا يليق بها، ولا أعتقد أن هذا يزعجكم أبدا، ولكن هذا هو شرطي للقبول بولدكم، وراح يوجه حديثه نحو والد أمجد وإخوته.
بعد المفاجأة التي أجبرت الجميع على السكوت، التفت نحوه والد أمجد قائلا: سيدنا العزيز، لك ما تريد، اطلب ما تريد، فأنتم وكريمتكم تأمرون، ونحن ننفذ فقط.
عدَّل السيد من جلسته، ثمَّ تحدث قائلا: (لا مهر لابنتي) مهرها واصل، بما أن أمجد مجاهد في الحشد فلا مهر لابنتنا أفضل من أن تتزوج مجاهدا، أنت تضحي بنفسك ودمك من أجلنا، فلا بأس أن نشاركك ثواب ما تقدمه في سبيل وطنك ودينك، لقد تكلمت مع ابنتي، وقالت: لك ما تريد يا أبي، وها أنا أطرح مقترحي عليكم. فرح الجميع، كان أمجد أكثرهم زهوا وفرحا بنفسه، وهو يشاهد تقدير الناس وحبهم له.
بعد عدة أيام حان موعد الزواج، خرج أمجد لابسا زيَّا عسكريا، ويلف عنقه بعلم العراق، طلب من أخيه أن يجهز له سيارته (البيك آب) التي كانت ترافقه في بجبهات القتال، قال لأخيه: ستكون سيارة زفافي، لا أريد أية سيارة غيرها. هنا شاهده والده، فراح يخاطبه معاتبا، ألم تجهز نفسك بعد؟، كيف ستتزوج بهذه الملابس، يا بني للحرب ملابسها وللحياة ملابسها، لا تخلط الأمور على نفسك، أجابه أمجد أنه يحب هذا الزي ولا يرى فيه ضيرا أبدا، هذا الزي هو ما يمنحه فرصة الزواج والعيش بكرامة. لم يشأ الأب أن يعارض رغبة ولده، أوصى أمجد أخوته وأحبته أن لا يعلو من شأن الفرح ولا يبالغوا فيه، ففي المنطقة بيوت فقدت شبابها ولم يذوقوا حلاوة الزواج بعد، لا نريد أن تحزن الأمهات وتعتصر بينما أنتم تفرحون، تفهم الجميع ما يريده أمجد، مرت الأمور بسلام تام كما يرغب هو.
بعد ستة أيام من زواجه، أخبر أمجد زوجته أنه سيلتحق هذه الليلة إلى الجبهة، لقد بدأ هجوم الكرمة وعليه أن يكون متواجدا هناك، قالت له: إجازتك لم تنته بعد، فردَّ عليها قائلا: لا بدَّ من أن أكون هناك، هم الآن بحاجة لكل واحد منا، سيكون لنا وقت طويل بعد أن ننتهي من هذه المعارك، في هذه الأثناء كان خبر عزمه على الالتحاق قد وصل إلى الشيخ (علي الخيكاني) مسؤوله المباشر، فاتصل به الشيخ فورا، بارك له زواجه وهنَّأه وقال له:
- إياك أن تلتحق هذا أمر مباشر مني، أنت عريس جديد، ابق هناك واستقبل المهنئين، لدينا ما يكفي من الرجال وهم يهنئونك أيضا.
لم يمتثل أمجد لأمر الشيخ، بل أصر على الذهاب إلى قاطع مسؤوليته، التحق مع جماعته، استمرت المعارك لما يقارب (16) يوما، كان يقف فيها أمجد مع أقرانه ندا قويا بوجه هجمات الدواعش، لم يصب بمكروه، مازحه احد أصدقائه قائلا: أمجد إذا رجعت لزوجتك فأنا متأكد أنها لن تعرفك أبدا، فقد تركتها بعد ستة أيام وها أنت هنا منذ ما يقارب العشرين يوما، أعانها الله عليك، وراح يضحكان معا.