الصقر الخفي
على مائدة الطعام المعتادة في كل يوم جمعة تتجمع العائلة مع بعضها، مستغلين عطلة نهاية الأسبوع، كان مناف يستمع لحديث أخيه حارث، وهو يتكلم عن قدرة الهواتف الحديثة وكيف أن شركات الاتصالات تتنافس فيما بينها لتصل إلى أعلى قدرة في تقديم الخدمات الحديثة لزبائنها، كان حارث يتحدث بزهو وبفخر كبيرين، كاشفا عن صف من الأسنان المتلألئة وهو يوجه حديثه للأهل في تلك اللحظات:
- أتعلمون، إن لدي قدرة على كشف خطوط الهواتف النقالة، لا بل السيطرة على الحديث الذي يدور بين المتصلين في ساعة واحدة، بعدها تأخذه موجة ضحك من كثرة ما يسمع من تلك الأحاديث.
يرمقه الوالد بنظرة عتب وتحذير، قائلا له:
- كانت خطوط الهواتف الأرضية في الوقت السابق تتداخل مع بعضها، لم نعلم مَن يتصل بمَن، ولكن الأقرب للعقل هو إن جميع الخطوط كانت مراقبة من قبل الدولة، لا خصوصية لأي فرد في المجتمع، إحذر يا حارث أن تكون مراقبا لحديث المجتمع، فللبيوت أسرارها وعيب كبير أن تكشف تلك الأسرار أو تحاول استغلالها.
مناف وهو يلقم طعامه، كان يراقب حركات أخيه، وحديثه، ويستمع إلى قدرته الفائقة في تحليل كثير من الأشياء التي قد يجهلها أكبر خبراء الاتصالات، يتذكر مناف طريقة انتسابه لجهاز في الدولة يسمى بخلية الصقور، وهو جهاز استخباراتي غاية في السرية، كان ذلك في عام (2006) إذ كانت بدايته مع ذلك العمل الذي لا يعلم به أي فرد في عائلته أو المقربين منه، مناف يستشعر بعض الخصائص في أخيه والتي أدركها بمجساته التي لا تخطئ، حارث شاب نشط جدا، عقله متوقد، أكمل تعليمه الجامعي، وهو يتقن الإنجليزية والروسية بطلاقة، فضلا عن ذلك اندفاعه وجسارته المحببتين، فهو لا يتهيب مطلقا من أي أحد .كان.
دار الحديث بين مناف وقادته في خلية الصقور، البلد يواجه موجة ظلام قادمة من جهة الموصل، مجاميع متوحشة سيطرت في نهاية عام (2013) على أجزاء كبيرة من البلاد، تهديد يداهم الجميع في تلك اللحظات، القوات العسكرية تتأهب بعدما منيت بانكسارات غير متوقعة، الحمل يضع أوزاره على خلايا أجهزة الاستخبارات، خلية الصقور في المقدمة لا بدَّ من أن تؤدي عملها لتخترق حسابات الظلاميين وصفوفهم، مناف كان شاهدا على تلك التطورات، انتهز الفرصة كي يفاتح قادته بأن يوافقوا على أن ينضم أخوه لعملهم؛ نظرا لما رأى منه من مؤهلات تشير إلى قدرته على العمل معهم، ويكون هو المتعهد عليه أمامهم، بعد شرح طويل أمام قادته بمؤهلات حارث، جاءت الموافقات أسرع مما توقع مناف، على أن يقنع أخاه حارث بأسرع وقت ممكن.
حارث كان حينها ما يزال يبحث عن عمل، فقد استقر مؤخرا بعد موجات من التعب والتنقل وعدم الاستقرار، والده أصر عليه أن يعمل معه في متجره الصغير لكي يساعده، فقد أصبحت لدى حارث عائلة وكان لزاما عليه أن يوفر متطلباتها، حارث لم يوافق أباه فيما ذهب إليه، فهو يرى بنفسه قدرة على ممارسة عمل غير الوقوف في المتجر، لذا وبعد محاولات عديدة للبحث عن العمل، أصبح حارث يعمل مع إحدى شركات النفط، بعقد مرضي، فقد تولى في تلك الشركة صيانة منظومات المراقبة الإلكترونية في الحقول النفطية.
حين عودته للبيت فوجئ حارث أن أخاه مناف ينتظره منذ ساعات طويلة، وبعد أن سلم عليه، استفسر منه عن سبب انتظاره، بعد أن تناولا الغداء، قال مناف لأخيه:
- لدي موضوع معك يا حارث.
- تحدث كما تريديا مناف أنا أسمعك، لقد شغلتني..!
- هنا لا يفيد الأمر.. دعنا نخرج إلى مكان آخر، الموضوع لا يحتمل التأخير، ولا أن يسمع عنه أحد.
حينها خرجا من البيت إلى حديقة قريبة من المنطقة، جلسا على طاولة منفردة هناك، كان يبدو على حارث علامات الحيرة والارتباك، وهو لا يعلم ما الموضوع إلى الآن، التفت نحو مناف قائلا له: أرجوك تكلم، ما الموضوع يا أخي، فقد بدأ صبري ينفذ، هل هناك مشكلة معينة تخصك..؟
انطلق مناف يتحدث إليه عما توصل له مع قادته في خلية الصقور، راح مناف يشرح له طبيعة الأمر وكيفية العمل، ومن الذي اختاره كي ينتمي لهذا الجهاز الدقيق في المنظومة الأمنية، لم يكن حارث ليصدق ما يسمعه، فقد تغيرت ملامح وجهه لتأخذ شكل غير المصدق، كان فاغرا فماه، عيناه خرجت إلى الأمام، لم يكن يفكر بشيء، سوى أنه توقف عند اللحظة التي أخبره فيها مناف أنه منتسب لهذه الخلية منذ عام (2006)، إلى هذا اليوم لم يعلم به أحد حتى أخوه المقرب حارث، كان حديث مناف ينزل على رأس حارث مثل موجة صقيع متتالية، لا يكاد يستوعب ما يدور أمامه..!
- هيه حارث هل أنت معي؟ هل فهمت ما أقصد بكلامي؟
- أه نعم نعم أنا معك، ولكن تريد الحق لم أفهم ما تريدونه مني بالضبط.
- لا تجعلني أعيد الكلام وأكرره، كما قلت لك هل لديك الرغبة بالعمل معنا في خلية الصقور، نحن نحتاج إلى مبرمج ذكي مثلك حتى نتتبع خطوات العدو واتصالاته، لا تنسى إنه وطنك بالنهاية يا حارث.
- لم أنس ذلك، ولكن كيف؟ ومتى؟ وأين..؟
- دع ذلك كله لي، سأجيب عن أسئلتك لاحقا، الآن أريد موافقة مبدئية منك، لا أخفيك أنها أخطر مهمة قد يقوم بها شخص على وجه الأرض، ولكنك أهل لها يا حارث، أنت إنسان مبدع وشجاع جدا.
- مبدئيا لا اعتراض لدي، لكن يبقى الأمر بالموافقة بعد أن ألتقي المسؤولين وأطلع على جوانب المهمة التي ستوكلونها لي.
بعدها تفرق الأخوان كل إلى بيته، لم ينم حارث ليلته تلك وهو يفكر بما قاله له أخوه، حاول أن يربط أفكاره ويبحث عن مخرج معين لما يدور في رأسه من أسئلة، لكنه لم يفلح، حينها قرر أن لا ينام، فتح حاسوبه الشخصي وراح يبحث عن أية معلومات عن خلية الصقور على مواقع الانترنت، لا شيء سوى أن البحث يأخذه نحو أنواع الصقور وأحجامها وحياتها، ففكر أن يخفف عن نفسه قليلا ويشاهد تقريرا عن الصقر العربي المسمى بـ(الشاهين)، سرعته النفاثة وقوة بصره الحادة التي تصل إلى عشرات الكيلومترات، ووزنه الخفيف، كل هذه الصفات تجعل منه مفترسا مباغتا، لا يشعر به أحد سوى أنه ينقض دون إنذار مسبق، كان حارث يستمتع وهو يشاهد تحليق هذا الطائر، يحاول أن يصل إلى تفسير معين يخص استغلاله للفضاء كأن السماء بأجمعها بيته الذي منه ينطلق نحو الأرض مثل سهم ملتهب.
بعد مدة ليست بالطويلة قرر حارث الانتساب إلى خلية الصقور، أدخلوه بدورات مكثفة عن كيفية التعامل مع الاتصالات، وعن طرق التخفي، وكيف يكون شخصيتين في آن واحد، إحداها تتعامل مع العدو بصفته عنصرا منهم، والأخرى عين من عيون خلية الصقور، لا بدَّ من دورات في علم النفس تؤهله للتعامل مع هذه الازدواجية حتى لا تختلط عليه الأمور، كان يتقدم سريعا في هضم ما يطرح عليه، وهو مما أثار إعجاب قادته العسكريين به حينها.
في تلك الأثناء كان تنظيم داعش يشن الهجمات المتتالية على الأراضي العراقية، يستولي على مساحات واسعة في المحافظات الشمالية والغربية، لذلك عهدت إلى خلية الصقور مهمة متتابعة عناصر ذلك التنظيم وتصفية قادته، وإفشال مخططاتهم الإجرامية، لذلك كان لا بدَّ لهذه الخلية من أن تدسَّ بعض عناصرها في مراقبة تحركات العدو، كان حارث أحد أولئك الذين انخرطوا بصفة جهادي متعصب لينتمي إلى تنظيم الدولة الإسلامية، كان متمكناً من اللهجة المحلية، دخل في دورات في التعامل مع القضايا الدينية والفقهية التي يركز عليها التنظيم الداعشي، لذلك انخرط سريعا في صفوفهم، شخصيته المتنكرة بإسم جديد وكنية جديدة (أبو صهيب)، العاطل عن العمل في إحدى الأحياء السكنية في منطقة الطارمية، كان هدفا سريع التقبل لأفكار داعش فجندوه سريعا معهم، ورحبوا به كثيرا.
كان (أبو صهيب) يتلقى المكالمات يوميا من مناطق أخرى يسيطر عليها الدواعش، حتى يسهل مهمة إدخال الانتحاريين إلى العاصمة، أو من أجل نقل سيارات مفخخة نحو أهدافها لأنه كان يعلم بتفاصيل الطرق، في الوقت نفسه كان النقيب (حارث السوداني) يرشد خلية الصقور بمعلومات مؤكدة عن تحركات السيارات المفخخة، وعن أماكن تواجد الدواعش في منطقة الطارمية، فكانت تصل القوات مسرعة لإفشال الهجمات الانتحارية، كانت هناك مجموعة من خلية الصقور تراقب حارث عن بعد، ما أن يعطيهم إحداثيات الهدف حتى يتوجهوا مباشرة نحوه.
المرحلة الثانية من الخطة المعدة من ذلك العمل، كانت تقع على عاتق خلية الصقور نفسها في افتعال انفجارات وهمية، ونشر أخبار مزيفة بشأن الضحايا والهجمات، حتى لا يفضح حارث ويكشف سره فيما إذا علم الدواعش بأن خططهم الانتحارية التي توكل إلى (أبو صهيب) تفشل دائما.
على مدى الستة عشر شهرا التي عمل فيها حارث، بصفة جهادي متعصب يكنى (أبو صهيب)، كان يمرِّرُ خلالها عشرات المعلومات إلى خلية الصقور، استطاع أن يفشل خططا لتفجير ثلاثين سيارة مفخخة، وثمانية عشر هجوما انتحاريا، كان ذلك بفضل قدرته العالية في التعامل مع الأهداف، ومعلوماته التي يقدمها سريعا جدا لزملائه في خلية الصقور، وما مكنه من ذلك كله هو إقامته لعلاقات جيدة مع أمراء التنظيم وقادته الأساسيين.
في أواخر عام (2015) بدأ مدُّ تنظيم داعش بالانحسار، فخسر العديد من المناطق التي كانت تحت سيطرته، استمر الحال هكذا بالتقهقر إلى عام (2016) أذ بدأت ملامح الدولة المزعومة بالانحسار الكبير والسريع؛ نتيجة الانكسارات التي منيت بها عناصرها في المناطق التي كانت تسيطر عليها، فما كان من أمرائها إلا أن يضاعفوا جهدهم في سبيل تعويض تلك الهزائم، وهو ما صعَّب من مهمة (أبو صهيب) حينها، فقد كانوا يضغطون عليه باستمرار كي يشن الهجمات ويحرك الانتحاريين إلى أكثر من منطقة، كانت تقع عليه إيجاد أماكن مناسبة في العاصمة لتفجيرها، لقد أحسَّ حارث أن هذه المهام كانت نتيجة شكوك تدور بين عناصر التنظيم تخصه هو بالذات، حتى إنه أخبر زملاءه في إحدى المكالمات السرية معهم قائلا: أشعر أنهم كشفوا أمري، فأسئلتهم وشبهاتهم لا تفارقني أبدا.
كان (أبو صهيب) على موعد مع تفجير ضخم يهز العاصمة، فقد تسلم من التنظيم سيارة ركاب نوع (كيا) محملة بالمتفجرات، كان هدفها سوقا شعبيا داخل بغداد، وكما هو المعتاد فقد أبلغ حارث خلية الصقور فورا، كي يقوموا بعملهم ويفشلوا الانفجار، لم يكن حارث يتوقع أن تنظيم داعش يراقبه بوساطة جهاز تتبع وضع في السيارة الملغومة، حتى إنه تلقى اتصالا من الموصل لتحديد مكانه، وحينما أعطاه الإحداثيات قال له العنصر الداعشي: أنت تكذب يا أبا صهيب، فالسيارة لا تسير نحو الهدف أبدا، نحن نراقبك الآن. حاول حارث أن يجد مبررا يخرجه من هذه الأزمة، الدماء تكاد تتيبس في عروقه، ما العمل، لقد اكتشفوا أمري لا محال..!، اتصلوا به مرة أخرى، فأجابهم: لقد اضطررت إلى إصلاح عطل مفاجئ في السيارة، وهو ما اقتضى مني تغيير مساري، حينما انتهى من اتصاله مع الدواعش، أبلغ حارث خلية الصقور بما حدث معه، فلا بدَّ الأن من أن يذهب بالسيارة نحو وجهتها الصحيحة، أعطوه الضوء الأخضر، بعدها أعلنت وسائل الإعلام عن انفجار ضخم هز العاصمة كان بسبب شاحنة نقل بيضاء.
اعتقد حارث أنه نجا في محاولته هذه، لكنه لم يكن يعلم أن الدواعش كانوا يتنصتون على مكالماته مع خلية الصقور بسبب جهاز تسجيل صوتي وضعوه في السيارة دون أن يكتشف أمره، لذلك صار (أبو صهيب) تحت الرقابة الدائمة، من الدواعش، حتى أوكلوا له مهمة سرية لا يعلم مكانها بالتحديد، وبعد توجهه للمكان المزعوم ألقوا عليه القبض بعد أن استطاعوا من ايهام خلية الصقور حتى لا يقوموا بحماية النقيب حارث، كانت لعبة كر وفر بين الدواعش وخلية الصقور. مرت ثلاثة أيام دون أن يتواصل النقيب حارث مع زملائه في خلية الأزمة، حاولوا البحث عنه ومحاولة تحديد موقعه لكن من دون جدوى.
كان حارث معتقلا في مكان بعيد جدا يسيطر عليه الدواعش، الكدمات تغطي وجهه من أثر التعذيب من، التحقيق ما يزال متواصلا معه، الدواعش يحيطونه من كل مكان، استدعي إلى التحقيق مرة أخرى هذه المرة مع أمير بارز في التنظيم، أجلسوه في غرفة معتمة، لا تكاد إنارة مصباحها المعلق تضيء جوانبها الضيقة، بادره المسؤول الداعشي بالسؤال بعد موجة سباب متتابعة:
- كيف تمكنت من التعامل مع المرتدين، ألم تعلم أنك ستُكشَفُ يوما ما؟.
- ...... صمت مطبق.
- سنجعلكَ تدفعُ الثمن غاليا، لن تفلتَ بفعلتكَ الشنعاء مطلقا.
- ..... ما يزال الصمت متواصلا.
حينها نادى المسؤول الداعشي على عناصره: تعالوا خذوا هذا المرتد بعيدا عني، حتى نقرر ماذا نفعل به لاحقا.
على مدى ستة أشهر كان البحث يتواصل ليل نهار عن النقيب حارث، كل الخيوط متقطعة لا تستطيع أن تحددي مكان اعتقاله، مصيره مجهول تماما، مناف كان يحاول أن يجيب عن أسئلة من نوع آخر، فالعائلة باضطراب كبير، الكل يسأل عن مصير ابنهم، ما الذي حدث معه، أين انتهى به المطاف؟.
في شهر آب من عام (2017) نشر الدواعش مقطع فيديو يصور عملية إعدام لمجموعة من المرتدين كما أسموهم، كان النقيب حارث يتوسطهم، لقد أعدم حارث مع من كان معه من المعتقلين على مرأى الجميع. لقد حدد مكان الإعدام قريبا من منطقة القائم، حين تمَّ تحريرها بحثت خلية الصقور عن جثة النقيب حارث مليا، لكن لم يتوصلوا لشيء، لقد حلق الصقر بعيدا دون أثر محدد.