سلاحان في سماء الخلود
في الغالب يتطلَّع الأبن إلى خطى أبيه فيضع قدمه على كلُّ أثرٍ يطه أبوه، يحاكيه، يقلِّدُ حركاته وسكناته، أقواله ونبرة صوته، حتى طريقة جلوسه، وفي المحاكَّات الكبرى السامية حين يرى الأبن إقدام أبيه، وإصراره العنيد على قتال الظلام والظلاميين سيحاكي الابن أباه.
من الجنوب حيث يمتزج الواقع بالغرائبي، تشاهد كثيرا من المواقف التي تستدعيك كي تقف عندها وتستذكرها بكلِّ فخرٍ، هناك حيث البصرة بقضائها الشامخ (قضاء المْدَينة) الذي انتقل معظم شبابه نحو ساحات القتال؛ كي يشاركوا مع إخوتهم مهمة الدفاع عن الأرض ودرء الظلام عن سماء العراق، الظلام الذي هجم من متون التاريخ والجغرافيا والأحقاد الدفينة، فضلا عن الملابسات الدولية التي تحكي عن دسائس مخابرات عالمية، كان الشيخ (حسين البهادلي) شاهد عيانٍ على تلك النفوس، التي لم تفكر بشيء سوى الأرض والعرض.
كثرة تنقلات الشيخ بين قواطع المقاتلين المنتشرين على مختلف الجبهات مكَّنته من رصد ومشاهدة تلك التضحيات عن قرب، ففي إحدى زياراته إلى قاطع الثرثار الواقع في محافظة الأنبار، كان الشيخ برفقة أحد تشكيلات الحشد الشعبي هناك، ومما لفت انتباهه إن جلَّ المنتسبين إلى هذا التشكيل العسكري هم من مدينة واحدة ومكان واحد، قضاء (المْدَينة)، كان متابعا لتحركاتهم وهو فرح بمقدار الهمة التي يمتلكها أولئك الشباب.
في أحد الأيام بينما الشيخ متواصلٌ مع بقية أعضاء هذا التشكيل عند قاطع الثرثار، يرافقهم في جولاتهم الميدانية والاستطلاعية، تفاجأ بالمقاتلين وهم يحملون سلاحين عليهما آثار دماء حديثة لم تجف بعد، سارع الشيخ إلى معرفة ما حصل، حينما وصل إلى حيث يقف المقاتلون وجدهم وهم يحملون السلاحين وقد امتزجت دموعهم مع ما كان يسيل من السلاحين من دماء، وقف الشيخ متحيرا، يشاهد مقدار الألم الذي حلَّ على تلك المجموعة العائدة توًّا من القتال، انقلب المعسكر، تراكض الجميع نحو موقع الحادثة، حيث يقف أعضاء المجموعة وقد طرحوا السلاحين على الأرض وتجمعوا حولهما يندبون ويندبون بحرقة. لم يكن أمام الشيخ (حسن) إلا أن يهدئهم، فذكرهم الله وتحدث لهم عن كرامات الشهادة، ولم يمنع عينيه من البكاء في تلك اللحظات، بعدها انفرد الشيخ بأحد المقاتلين الذين كانوا إلى جانبه وسأله:
- بلِّغني عن خبر هذين السلاحين؟
فأجابه المقاتل وهو لا يزال يبكي في وقتها:
- شيخنا أتتذكر المقاتل (رياض) ووالده الذي كان معه في نفس الجبهة، نعم أنت تتذكرهما فهما من محافظتك من قضاء (المْدَينة)، ألا تذكر ذلك؟
حينما سمع الشيخ بأسم (رياض) ووالده الحاج (أبو رياض) لم يتماسك حينها، فأخذ يداري دموعه مستذكرا هذين المقاتلين، الوالد وابنه في جبهة واحدة، نعم لقد رأيتهما أكثر من مرة يتنقلان بكل حيوية ونشاط على السواتر الأمامية.
آآه لقد كانا مثالا قلَّ نظيره في التضحية، كنت أعتقد إنهما صديقان حينها؛ لكن المفاجأة كانت أن المقاتل الأكبر هو والد رفيقه في الحرب وصديقه الذي كنت أعتقد، بعدها تنبّه الشيخ إلى أنه كان يحدِّث نفسه، فالتفت مرة أخرى للمقاتل الذي كان إلى جانبه، قائلا:
- ما الذي حدث للشهيدين؟
- ألقى ببصره بعيدا، وتلمح عينيه المغرقتين بالدموع، أطرق رأسه فقال: ليلة البارحة كانت عاصفةٌ جدا يا شيخ، بينما نحن نقاوم هذه العاصفة، تعرَّضت لنا مجموعة من (الدواعش) كانوا قد استغلوا ظروف الطقس السيئة، فما كان منا إلا أن قمنا بمقاومتهم، كان رياض وأبوه في مقدمتنا، فيما نحن نسارع من أجل تغطية بعضنا البعض كي لا يتمَّ اختراقنا من قبل العدو، شاهدنا رياض يقع من على الساتر الأمامي، تدحرجت جثته إلى الأرض، كان قد أصيب بطلق أرداه في الحال، لم نكن لنستقر بعد وإذا بنا نفاجأ بوالد رياض هو الآخر ساقطا على الجهة الأخرى من الساتر، سارع بعضنا نحوهما دون فائدة، كانا قد فارقا الحياة في الحال، سحبنا الجثتين ووضعناهما في مكان آمن خلفنا مباشرة، وبعد أن تمَّ التصدي للتعرض، كنا قد سلمنا جثتي رياض ووالده لإدارة اللواء وأبقينا سلاحيهما معنا، وقد جئنا بهما اليوم كما ترى.
لا يعرف الشيخ حقيقةً لم قد استحضر صورة والدة (رياض) وهي تشاهد جثماني زوجها ووالدها في يوم واحد، من يتبقَّى لها؟، وكيف ستتلقى هذه المصيبة؟، هؤلاء النسوة هنَّ مصداق جهادنا أمام هؤلاء (الدواعش)، فبمثل والدة رياض وغيرها الكثيرات نفاخر العالم بأجمعه، الشيخ لم تتوقف دموعه، روحه انقسمت هو الآن يشاهد جثماني رياض ووالده، لكنه هناك يتطلع إلى عجوز كبيرة تستقبل هذه الجثامين بالزغاريد والدموع، أيَّ وضع أقسى من هذه المشهد..! الشيخ تنبه مرة أخرى لنفسه، نزع عنه تفكيره بأي شيء، لكنه أطلق العنان لدموعه مرَّةً أخرى.
بين هنا وهناك مسافة لا تقاس بالأميال، إنما بالشجن والرجاء، والحب، والحلم بعودة الأبن، فرحة القلب وقرَّة العين، وبعودة الزوج الخيمة والأمان، تلك المسافات قوضتها فكرة الشيخ العالقة بين هنا وهناك، بين جثمانين هامدين، يحكيان مجدا عظيما، وبين جسد خاوٍ ينتظرهما بشغف، ستعرف تلك المرأة أن الموت قاضم الرجال، ولا يختار إلا من هو أشد عودا وأصلب.