عرسٌ بلون الأرجوان
بين أن تطلب الحياة بكل فرحها وابتساماتها، أو أن تحلم بالعالم الآخر بكل ما يضفي على أحبتك حزنا مضاعفا نتيجة فقدانك أو التفكير بأنهم لن يروك مجددا فهذه جدلية كبرى، لقد تعودنا على الخسارات حتى تحولت إلى عناوين نتوسم بها، كيف سأقنع نفسي أولا وخطيبتي ثانيا أن هناك هاجسا يهمس لي أني لن أعود مرة أخرى إلى لقائها؟، وإن فرحتنا العظيمة ستتلاشى قبل أن تتحقق، خطيبتي التي جاهدت كثيرا كي تكون من نصيبي ها أنا أتردد في الوصول إليها، أتلكأ في إعلان زواجنا، ما زالت بعيدة عني، المرأة التي أحبها ما زلت غير قادر على حسم أمري معها، الحرب بكل أهوالها لم تكن لتضعني بهذه الحيرة وإنا أقف أمام عيني خطيبتي. بهذه الأسئلة كان محمد يواجه نفسه، وهو يقصد بيت خطيبته ولم يكن يعلم أنها المرة الأخيرة التي سيتقابلان فيها، محمد الذي كان يحمل مقدارا من العناد غير المبرر وهو يؤجل لحظة اقترانه بخطيبته مرة بعد أخرى، يتذكر قبل ثواني وحين خروجه من بيت والده، أن أمه لحقت إلى الباب، كانت تتوسله: وليدي حمودي.. أريد أن أفرح بزواجك قبل أن يأخذ الله أمانته..!
عينا محمد على الشارع تراقب بيت خطيبته من بعيد وهو يقترب منه رويدا رويدا، البيت يكبر متجسدا أمامه، بينما كلامه يتضاءل، أعذاره نفذت، ماذا سيقول لها هذه المرة كي يطلب تأجيل اقترانهما للمرة الرابعة أو الخامسة أو حتى العاشرة، لم يعد يتذكر الآن عديد المرات التي أقدم فيها على ترك خطيبته والالتحاق بالجبهة، قلبه يفكر بمكانين معا، واحد هنا مع ملاكه الجميل والآخر تركه هناك على التلال وبين الوديان وهو يتنقل بين جبهات القتال ضد من لا يرغبون بالحياة، ومن يبغضون الحب والسعادة، غابت الأصوات لم يعد يسمع شيئا فقط طرقات الباب، حركة سريعة من وراءه، خطوات تتقافز فرحا، واجهته بملامحها الرائعة، وبشالها الجميل، كانت تبتسم بفرح، حاولت احتضانه، عيناها كانتا مصوبتين إلى عينيه تماما، لم يخف عنها اشتياقه، دعته إلى الدخول للبيت، لكنه رفض بشدة، قال لها:
- لقد ضقت ذرعا بالجلوس في البيت منذ أن جئت بإجازتي هذه ولليوم، لا شيء أفعله سوى البقاء في البيت، الأكل والنوم والجلوس في غرفة الضيوف، أتعلمين، منذ أن تكلمنا أخر مرة وقلت لك لقد صرت قريبا من البيت ولليوم لم أخرج سوى هذه المرة، ياالله أشعر أن هذه الإجازة تطول وتطول، ما عدت أحتمل، مكاني ليس هنا، مكاني هناك مع اصحابي في الساتر.
كانت تستمع لحديثه وهي واجمة، هالات من الحزن تخيم على عينيها اللتين كانتا عن قريب تهللان فرحا بقدومه، لم يتنبه إلى أنها بدأت تبكي.
- كما تحب، لنجلس في الحديقة إن شئت، أنا ذاهبة لأتى بالضيافة، لن أتأخر.
لم تكن تتوقع أن زوجها المستقبلي سيكون مشغلا عنها إلى هذه الدرجة، مرَّ وقت طويل لم يلتقيا ويتحدثا سويةً، ما الذي حدث؟، هل بدأت أتسبب له بأي إحراج أو مشاكل نفسية، هل بدأ يمل مني، ولا يرى في الكون شيئا سوى الساتر والحرب؟، كانت هي الأخرى مشغولةً بعالم الأسئلة الذي ينهش رأسها، رجعت إلى حيث تركته، ها هي تشاهده وهو يسرح في مكان آخر، نعم، إنها متأكدة تماما أنه ليس معها أبدا، هي تعرفه جيدا، محمد الذي أحبته كثيرا وحلمت به زوجا لها طوال الوقت.
- تفضل، لقد كنت منشغلة بتحضير (قطائف الحلو) التي تحبها.
- أوو.. شكرا لكِ حبيبتي، بالفعل أحبها جدا، أتذكرها كثيرا وأنا هناك، أتكلم مع أصحابي عنها ونحن نحرس الساتر.
- الساتر مرةً أخرى، أرجوك يا محمد أجبني صراحة، هل أبعدت فكرة زواجنا عن دأسك، لتتعلق بفكرة الحرب والساتر دائما؟، أنا أشجعكَ دائما على الذهاب إلى هناك، فأنت ما أفتخر به أمام عائلتي وصديقاتي، لكن لا تنسى أننا لم نخرج من دوامة التأجيل المتواصل لليوم، أرجوك دعني أكون قريبة منك أكثر، دعني أشاركك أحلامك وبطولاتك، ولكن ليس وأنا هنا، بل هناك في بيتك، كزوجة مطيعة محبة، لماذا لا تحقق لي هذه الأمنية، فقد مللت الانتظار حقا..!
أمام سيل أسئلتها وتوسلاتها ما كان عليه إن يحاول التخفيف عنها، مازحها قائلا: أتعلمين أن أصدقائي هناك صاروا يطلقون عليَّ تسمية (النسر ثاقب البصر)، إنهم يعتمدون عليَّ كثيرا من أجل التغطية، وحمايتهم من الخلف، قناصتي أصبحت (عصا المجاهدين)، صرت مشهورا بينهم، لا يخرجون لأية مهمة دون أن يستعينوا بي. كان يواصل حديثه بينما هي تنظر إليه، لم تكن لتقاطع حديثه لأنها تعلم تماما أن سعادته تكمن في هذا الجانب، حينما يتحدث عن الموقع والساتر والحرب المقدسة، يتحدث عن التضامن والتكافل والمودة بينه وبين أصدقائه، حينما يذكر لها أحلامه عن تحرير المناطق المتبقية، يستذكر معها انهزام الظلاميين وتراجعهم، وإشراقة صباح جديد دون أن يكون فيه أي تواجد للدواعش، كان يبتسم وهو يتحدث، مما خفَّفَ عنها الكثير.
استدار محمد نحو خطيبته قائلا: بعد أن أعود في المرة القادمة التي سنكون قد حررنا فيها ناحية (الرياض) سوف نتزوج، هذا وعد نهائي مني، ثقي أني لن أقوم بتأجيل هذا الشيء مرة أخرى مطلقا. كشف وجهها عن ابتسامة عريضة، كانت تثق بكلامه كثيرا، طلبت منه الانتظار قليلا قبل أن يخرج، غابت في البيت وعادت إليه مسرعة، كانت تحمل في يدها شيئا، طلبت منه فتح يديه، وضعت شالها الأبيض ذي الخطوط الزرقاء بين يديه، طلبت منه أن يتذكرها دائما هناك حتى يرجع مرة أخرى، أشبك يديه على شالها، ضمه إلى صدره، أخذ يشم عطرها من خلاله. بعدها استأذنها بالذهاب.
عند التحاقه وصل إلى مقر عمليات قاطعه، راح يسلم على الجميع ويتحدث معهم عما جرى في غيابه، لمحه مسؤوله المباشر الشيخ (ميثم الزيدي)، فأشار إليه بالقدوم، ذهب محمد نحوه، التفت إليه الشيخ قائلا:
- محمد لماذا لم تتزوج، ألم نتفق على أنك ستحسم هذا الموضوع في إجازتك؟
- شيخنا سأتزوج إن شاء الله، أعدك بذلك، بعد أن ننتهي من معركتنا هذه سأتزوج مباشرة، وهذا وعد مني.
لم يقتنع (ميثم الزيدي) بما قاله محمد، ولكن ما العمل، هو سيستمر بالضغط عليه حتى لا يؤجل زواجه مرة أخرى، يبدو أن محمدا مصرٌّ على كلامه هذه المرة.
في اليوم التالي كانت الأوامر قد صدرت بضرورة تحرير ناحية (الرياض) من الدواعش، استعد محمد جيدا للمعركة، تأكد من قناصته، تذكر أنه نسي أمرا مهما، كان قد وضع شال خطيبته في جيبه، أخرجه بسرعة، وراح يشده على عضده، تقدم مع أقرانه وهم يحررون الناحية بسرعة ودقة هائلتين. بعدها بدأت عملية تمشيط المناطق والأزقة في تلك الناحية، كان محمد يتقدم مع أصحابه بحذر شديد، وهم يفتشون البيوت عن بقايا لعناصر التنظيم الإرهابي قد يكونوا مختبئين في هذه اللحظة، فوجئ محمد بخروج داعشي من أحدى البيوت، كانت لمسافة قريبة بين الداعشي ومحمد وأصحابه، حاول أن يطلق عليه النار لكنه أخطأه، حينها فجَّر الداعشي نفسه وهو لا يبعد كثيرا عن محمد، ركض الباقون نحو زميلهم، الكل يصرخ باسمه: محمد.. محمد.. كان قد طار عاليا في الهواء ليسقط في مكان بعيد، وقفوا عند رأسه، لقد قضى نحبه مباشرة، الدم يغطي وجهه، جسده تملؤوه نتيجة شظايا الانفجار، تقطعت ملابسه فكشفت عن ذراعه الذي شدَّ عليه يشال خطيبته الذي اصطبغ إلى باللون الأحمر، كان محمد يحلق عاليا في هذه اللحظة بينما خطيبته تعدُّ اللقاءبه وإعلان زواجهما..!