قنّاص الهياكل

{ المصدر : الموسوعة التوثيقية الكبرى لفتوى الدفاع عن عراق المقدسات }

في اهوار العراق... كان يعوم بزورقه الصغير وتحفّ به طيور البط ودجاجات الماء وهو يجوب الممرات المائية الضيقة بين القصب والبردي؛ أتقن مهنة الصيد وأصبح أكثر اصحابه مهارة وعلى الرغم من صغر سنّه؛ بفعل دقته العالية بالتصويب فهو يصيب الطيور في كبد السماء والتي تقف على الارض من مسافات بعيدة نسبيّاً.

في تلك الاجواء القاسية إذ برودة الجو في الشتاء وشمس البصرة الحارقة في فصل الصيف كان سيف ياسين صالح آل عباس الحربي يقضي خمسة أيام في الأسبوع في الاهوار بعيداً عن أهله الذين يسكنون قرية ال عباس في قضاء المدينة، وقد اكسبته هذه المهنة الصلابة والخشونة وصقلت موهبته في الرماية فغدا سيفاً صقيلاً واسما على مسمى.

بعد دخول داعش الى العراق وصدور فتوى الدفاع المقدّس من المرجعيّة العليا هبّ العراقيون لتلبية الفتوى دفاعاً عن الوطن والمقدسات، في ذلك الوقت اجتمع رجال عشيرة آل عباس الحربي في ديوان شيخ العشيرة وقرروا التطوع فخرج منهم في بداية أيام الفتوى ثمانية عشر رجلاً وكان سيف في ضمنهم، ولكونه من مواليد سنة الف وتسعمائة وتسعة وثمانون وله من العمر ستة عشر عاماً في أيام الفتوى كان يخشى من عدم السماح له بالمشاركة في القتال إذ إنّه لم يبلغ السن القانوني لخوض المعارك؛ فقال له عمّه (أسعد صالح): لا تهتم كثيراً يا بُني ستذهب معنا مهما كلّف الأمر فنحن نثق بمهاراتك القتاليّة.

بعد عدّة أيام التحقوا جميعهم بلواء علي الاكبر التابع للعتبة الحسينيّة، وانظموا إلى حماية الامامين العسكريين في سامراء.

بقي سيف مع ابناء عمومته يرابطون في العتبة العسكريّة لمدة ستة أشهر، ولم يحصل أيّ تعرّض عليهم ولم يخوضوا أيّ هجومٍ، وذات يومٍ قال لعمّه اسعد: أنا اريد أن اخوض المعارك لأنّي اطلب من الله الشهادة.

فردّ عليه عمّه: ألا تريد أن تتزوّج؟

فقال سيف: سأتزوج من الحور العين إن شاء الله.

ترك سيف سامرّاء وانضمّ إلى فصيلٍ آخر من فصائل الحشد الشعبي، وبعد أن اخبرهم بمهارته في القنص اجروا له اختباراً ادخلوه على أثره دورة القنّاصين فتخرّج منها بنجاحٍ باهرٍ وأصبح آمر مجموعة القناصين وكان تحت امرته ستة عشر قناصاً.

كانت اولى مشاركاته في جرف النصر إذ الاراضي الزراعيّة المشابهة لبيئة الاهوار التي ترعرع فيها؛ فأثبت فيها جدارته في القنص وتمكن من قتل عشرات الدواعش هناك.

بعد تحرير جرف النصر ثم نقل القنّاص سيف الى منطقة الهياكل في الفلوجة واصبحت مقرّاً له لكنهم كانوا ينقلونه من مكان الى آخر حيثما تتواجد الاشتباكات وبعد انتهاء مهمته يعود الى مقرّه في الهياكل.

في احدى المعارك كان يترصّد قيادة داعش فخرج أربعة منهم من ذلك المكان؛ فاطلق سيف رصاصةً اصابت احدهم وأردته قتيلاً، ولمّا اجتمع اصحابه حوله ليرون اصابته، اصاب سيف الداعشيّ الاخر ثم اصاب الثالث، وخاطب جماعة الحشد الشعبي الذين إلى جانبه غيّروا مكانكم بسرعة، وما ان ابتعدوا عن المكان، سقطت قذيفة هاون على نفس الموضع الذي كان يجلس فيه سيف، فتفاجأ اصحابه وسألوه كيف عرفت بذلك؟

فأجابهم: إنها من خبرة القناصين.

لقد احرز القناص سيف اكبر عددٍ من القنص بين القنّاصين العراقيين حتى انّه فاق شيخ القناصين أبو تحسين الصالحي الذي قتل ثلاثمائة وسبعون داعشيّاً، بينما قتل سيف ثلاثمائة وثمانون وقيل اربعمائة وثمانون داعشيّاً، لكنّه لم يظهر على الساحة الاعلاميّة بسبب تكتّم الفصيل الذي ينتمي إليه، إذ كانوا يتعمدون التعتيم الاعلامي على عملياته خوفاً عليه من الاستهداف أو الغدر.

في أحدى ساحات المعركة حصل لسيف لقاءٌ بشيخ القناصين ابو تحسين الصالحي(*) فقال لسيف مازحاً: ماذا تعرف عن القنص يا صياد الطيور؟

فتبسّم سيف ياسين وطلب منه أن يختبره؛ فسأله أبو تحسين عن انواع عدّة من القنصات وعن كيفيّة استخدامها، وكان سيف يجيبه بالتفصيل؛ فتفاجأ أبو تحسين من ذلك وقال له: أين تعلّمت كلّ هذا؟

أجابه سيف: إنّ لي صديقاّ اراسله عبر شبكة الانترنت، وهو قنّاص روسيّ، وقد بعث لي مع كل صورة قنص كراساً لكيفيّة استخدامه، وقد ترجمها لي صديقٌ آخر وعكفت على دراستها وكنت اطلب من قيادة الحشد الشعبي ان يعيرونني تلك الانواع من القنّاصات حتى اطبّق الرسوم والمعلومات على السلاح عمليّاً.

فأثنى عليه أبو تحسين كثيراً وأعجب في مهارته في القنص وخبرته المتطورة واعطاه ملاحظات اضافيّة تنفعه في هذا المجال.

في معركة بيجي كان القناص سيف قد رصد أكبر الدواعش هنالك الذي يطلق عليه (والي بيجي) وبعد جمع المعلومات الكافية عنه ذهب باتجاه النهر واغلق هاتفه النقال واختفى بين القصب والاحراش واستمر لمدة ثلاثة ايام، هنالك وبسبب مهنته السابقة في الصيد وبقائه مدد طويلة في الاهوار عرف كيف يتغذّى على اشياء بسيطة ولا يغادر مكانه حتى يظفر بصيده.

في تلك الأيام كان أهل سيف يحاولون الاتصال به فلا يحصلون على الردّ؛ فاتصلوا على أصحابه وسألوهم عنه. كان اصحابه لا يعلمون أهو حيٌ أم ميت؟ فأجابوا أهله بأنّه نائم

فردّ عليهم عمّه بنبرةٍ فيها شيء من الحدّة: أيعقل أن ينام سيف في مثل هذه الظروف؟ أريد جواباً مقنعاً.

فقالوا له: في الحقيقة أنّ سيفا مفقود منذُ ثلاثة ايّام ولا نعلم عنه شيئا.

رد عليهم عمه: سأبقى على اتصال معكم وإذا حصلتم على أيّ خبر أبلغوني بسرعة.

في اليوم الثالث خرج والي بيجي الى المكان الذي يترقبه فيه سيف، وبعد محاولات عديدة تمكن من اصابته في رقبته، ولشدّة الضربة قذفته الرصاصة مسافة مترين الى الوراء واردته قتيلاً.

بعدها عاد سيف الى أصحابه؛ فعانقوه وهم يبكون قائلين حسبناك شهيداً أو أسيراً، ثم اتصل باهله واطمأنّوا عليه، ونزل في اجازة إليهم.

كان سيف يطلب من المسؤولين في الحشد الشعبي ان يعطوه اجازة خلال مدة الزيارة الاربعينيّة؛ ليقوم بخدمة زائري الامام الحسين (عليه السلام) الذين يذهبون مشياً على الاقدام من البصرة إلى كربلاء، وكان يقدّم الخدمة مع ابناء عشيرته في موكب (بطل العلقمي) على الطريق بين قضائي المدينة والجبايش، وبعد انتهاء ايام، هذه الخدمة يذهب لزيارة الامام الحسين (عليه السلام) ويمشي على قدميه من النجف إلى كربلاء، وكان يقول لأهله: أريد أن احصل على اجر خدمة الزائرين والمشي والزيارة، واريد ان يكون دخولي إلى كربلاء في العشرين من شهر صفر يوم دخول الإمام زين العابدين (عليه السلام) وعيال الحسين الى كربلاء بعد رجوعهم من السبي كما في الروايات والاخبار، وبعد اكمال الزيارة يعود الى مقرّه في منطقة الهياكل في الفلّوجة.

خاض سيف عدّة معارك قتل فيها المئات من الدواعش وبعد كلّ معركة يعود إلى مقرّه في الهياكل مع فصائل الحشد وكان معهم هذه المرّة قطعات من الجيش العراقي وجهاز مكافحة الارهاب لتحرير بقيّة الارض التي اغتصبها داعش، وباعتباره آمر مجموعة القناصين في قطعات الحشد الشعبي المتواجدة هناك كان يقسّم اصحابه على النقاط ليذهبوا إلى اماكنهم التي لا تبعد سوى كيلو متر واحد سيراً على الاقدام كل صباح، وكان الطريق كلّه مراقباً بالكاميرات.

في صبيحة يوم السابع عشر من آذار سنة الفين وستة عشر جاءت همرات الفرقة الذهبيّة باكراً وقالوا: نحن نقلّ القناصين الى اماكنهم.

فردّ عليهم سيف: ان اماكننا لا تبعد كثيراً من هنا، وقد اعتدنا على الذهاب إليها مشياً على الاقدام كرياضة صباحيّة.

لكنّ الفرقة الذهبيّة اصرّت على نقلهم ولم يقبلوا أن يذهب القناصون مشياً؛ فاودع القناصون اسلحتهم في صناديق المركبات وركبوا مع الفرقة الذهبيّة، لكنّ سيف كان يحمل اكثر من سلاح فأودع القنّاص في صندوق المركبة ووضع سلاحه الاخر نوع (GC) على ركبتيه وجلس في السيارة.

سارت المركبات على الطريق وبعد فترة وجيزة انفجرت عبوتان ناسفتان عليها فأُعطبت المركبتين الاولى والثانية، وحصل اطلاق نار كثيف عليهم من قبل مجموعة من الدواعش؛ فنزل سيف من المركبة مسرعاً واطلق النار على الاعداء وتمكن من قتل ستة دواعش، لكنّهم اصابوه بيده فكسروها ولم يستطع ان يقاتل، وفي تلك الاثناء اصيب احد اصدقائه فحمله سيف على ظهره ليخليه من مكان الاشتباك، وبينما هو يريد التحرّك اصابه الدواعش برصاصتين في صدره فوقع الى الارض لا يستطيع الحركة.

بعد سماع دوي الانفجار وإطلاق الرصاص جاءت وحدة الاسناد واشتبكت مع العدو واجبرته على الفرار، ثم نقلوا جثامين الشهداء وتم نقل الجرحى الى مدينة الطب في بغداد. وبعد ذلك تم اخبار ذويهم؛ فجاء أهل القناص (سيف) إلى مستشفى مدينة الطب وطالبوا بفتح تحقيق في القضيّة، واعدّوا الحادث عمليّة بيع لقنّاصي الحشد الشعبي، وعلى الجهات المسؤولة الكشف عن ملابسات الحادث، فكيف تم زرع العبوات في الطريق وهو مراقب بالكاميرات؟!

بعد يومين من مكوث سيف في مدينة الطب اجريت له عمليتان جراحيتان وكان الطبيب يائساً من حالته لكنّه كان معجباً بشجاعته وصبره، فهو لم يبدُ عليه الانكسار على الرغم من وضعه الصعب الميؤوس منه، امّا صديقه الذي قام هو بأخلائه فقد كانت عمليّـته ناجحة وتماثل للشفاء.

في ذلك اليوم، يوم التاسع عشر من آذار استشهد سيف ياسين آل عباس الحربي متأثراً بجراحه دفاعاً عن الوطن والمقدسات لتصعد روحه إلى بارئها راضية بما قسم الله لها.