أخوةُ يوسف
في القافلة المحملة بمواد واحتياطات ضرورية ضمن ما يسمى بـ (قوافل الدعم اللوجستي)، والتي تنطلق بين الحين والآخر من مناطق التبرعات إلى حيث معسكرات المجاهدين في شمال البلاد، في تلك القافلة كانت حركة السير تتباطأ كثيرا؛ لكثرة الحواجز الطبيعية التي تنتشر في تلك الأماكن، فالطريق يأخذنا بين جبال شاهقة تحافَّها انحدارات مميتة، إضافة إلى احتمال وجود قناصة العدو في تلك المناطق، وهم يترصدون بين منحنيات الطرق، وهو ما يفرض علينا مزيدا من الحذر كي لا نتسرع ونرتكب خطأً قد يكون مميتا، لكن ذلك لم يكن ليمنع وصولنا إلى وجهتنا التالية (تلال حمرين)، وتحديدا منطقة (علَّاس). فبعد وصولنا وترحاب المقاتلين وترديد الأهازيج نظرنا بأعينهم فرحة الغلبة والنصر والمشاركة بالجهاد.
قمنا بإفراغ شاحنات القافلة من المواد الغذائية والأعتدة التي كانت محملة بها؛ كي يتمَّ توزيعها على مجموعات المقاتلين المنتشرين في تلك المنطقة، وبعد إن فرغنا من مهمة توزيع حاجات قافلتنا، جلست مع المقاتلين أستمع لحديثهم وأنقل لهم فرح الناس ودعواتهم لهم بالتوفيق والسداد وأن يحميهم الله ويسدد خطواتهم، المجموعة التي كنت أجلس معها كانوا أغلبهم من مدينة (السماوة) في جنوب العراق، قلت مع نفسي: هذه المدينة كانت ولا تزال منطلقا للمجاهدين منذ ثورة العشرين إلى يومنا هذا، قطع حديثي مع نفسي أحد الأخوة، إذ نبهني أحد الأخوة قائلا: شيخنا إن كنت ترغب بسماع حكاية عظيمة عنا، فأنصحك بلقاء أخوة يوسف؟.
تطلعت إليه وعلى عجل سألته: أرغب طبعا، فالعنوان يشدُّ النفس إليهم، خذني ألتقيهم، وفيما كنا نخذ الخطى باتجاههم أجابني ولما نصل إليهم بعد:
- هم سبعةُ أخوةٍ من السادة العلويين، أمَّا عن تسميتهم فقد كانت بسبب أخيهم الثامن الذي استشهد في أحدى المعارك، هؤلاء الأخوة يا (شيخنا) طلبوا أن يكونوا معا في الموقع الحربي، يتقاسمون الأكل والحراسة أيضا، متراصين منذ التحاقهم بالجبهة حتى يومنا هذا.
بلغناهم فوجدناهم مجتمعين بنقطة واحدة، وكلي رجاء أن يخبروني عن قصتهم هم، فهم حين بادروني بالسؤال حينما علموا إنني قد قصدتهم لسماع حكايتهم: أتريد أن تسمع حكايتنا يا شيخ؟ فابتسم لهم:
- إن حكايتكم هي ما حملتني إليكم.
أخذ أحدهم زمام الحكاية وسرد لي:
- نحن ثمانية أخوة لأبٍ طاعنٍ في السن، كان لنا أخٌ ثامن تقدَّم إلى جبهات القتال منذ صدور الفتوى المقدسة، لكنه قضى شهيدا في إحدى المعارك، لقد كان شجاعا جدا، وبعد أن وصل جثمانه إلينا، تجمعنا حول نعشه باكين لأطمئن، ولكننا قررنا حينها أن نتطوع جميعنا في الحشد الشعبي.
- لكن دعني أسألكَ عن والدكم، كيف كانت ردَّة فعله وأنتم عازمون على الالتحاق بجبهات القتال، خصوصا وهو لا يزال مفجوعا بأخيكم الشهيد (رحمه الله)؟.
- هذه هي المعضلة يا شيخ، هنا كانت بداية المصاعب علينا، فالوالد لم يكن ليعطينا الإذن مطلقا، قال لنا: من سيبقى معي إن أنتم قضيتم هناك..!، أخذ يبكي كثيرا وهو يستذكر ابنه الذي راح شهيدا قبل مدة قصيرة، جربنا معه كل وسيلة من أجل إقناعه، ولكنه كان يرفض دائما، لم يبق شخص نظن أنه يؤثر على والدنا إلا وذهبنا إليه في سبيل إقناعه، بعدها جلسنا مجتمعين نحن ووالدنا، تقابلنا وبدا واضحا أنه لا يستطيع أن يقف حائلا بيننا وما عزمنا عليه، أطرق رأسه، وراح يدعو لنا بالسلامة والحفظ، وافق على ما عزمنا عليه ولكن بشرط واحد فقط.
هنا قاطعته قائلا:
- لكن لماذا اخترتم البقاء مجتمعين في مكان واحد؟، ذلك قد يكون خطرا عليكم إن حدث - لا سمح الله - أيَّ تعرض على جبهتكم من قبل العدو.
- دعني أكمل حديثي يا شيخ وسترى لم قررنا البقاء معا، فبعد أن وافق والدنا على ذهابنا جميعا إلى القتال، اشترط علينا البقاء سوية في مكان واحد وخلف ساتر محدد، وقال: إن عدتم ستكونون جميعا بخير، وإن استشهدتم فسأفاخر بكم الدنيا، وأقول: ذهبوا بأجمعهم ولم يتبق منهم أحد في منزله، هذا هو شرطي ولكم القرار، وافقنا الوالد وتعهدنا له بالبقاء مجتمعين، وهذه حالتنا منذ التحاقنا إلى هذا اليوم.
كانت آثار الدهشة والحيرة بادية على وجهي، وهو ما استنتجه الحاضرون من السكوت الذي لفني وأنا استمع لحكايتهم، كنت أتأمل الحياة التي تفترض مفارقات عديدة بجوانبها كافة، ومنها الجانب الحاكم بين الناس، وأعني به الرابط العائلي الذي يوثق بين مجموعة من الأفراد، هنا لم يكن أمامي سوى أن استشهد لهم بأبي الفضل العباس (عليه السلام) مع إخوته في يوم عاشوراء حين طالبهم بالتقدم قبله كي يدافعوا عن أخيهم وإمامهم الحسين (عليه السلام) في ذلك اليوم، اختتمت جلستي معهم بالدعاء ورجعت إلى مقرِّ المعسكر وأنا أفكر بقصة (أخوة يوسف)..!