الزوجة الصابرة
بعمامته البيضاء الناصعة جدا، وشيبته التي شارفت على السبعين سنة، اعتلى منبر صلاة الجمعة في الحرم الحسيني المقدس، إذ كنا وزملائي نؤدي مراسم الزيارة، كان اقتراح احد الأصدقاء بالبقاء للاستماع إلى خطبة الجمعة، لنشاهد الرجل الذي وصلت كلماته للعالم أجمع، وهو يستحث الهمم في سبيل الانخراط في القوات المسلحة ومواجهة التنظيمات الإرهابية التي كانت تستبيح كل شيء في مناطق الوطن الغربية. يستند على عصاه، ويستند على ما تبقى لديه من قوة، كان صوته ملائكيا يأخذك إلى عالم آخر، حديثه المتسلسل وهو يعظ ويرشد ويذكر، كان لزاما عليه في كل مرة يعتلي هذا المنبر أن يستنهض همم المقاتلين، ولاسيما ونحن نعيش في فترة ما زالت المعارك متواصلة في الطرف الآخر من البلاد، كان يستذكر حوادث شتى عن الشجاعة والمروءة التي يتحلى بها المقاتلون، والتي تصله أخبارهم أولا بأول، ولكن ما شدَّ انتباهي له هو ذكره لحادثة ظلت عالقة بذهني.
قال الشيخ: دعوني أروي لكم حكاية عائلة تفانى أفرادها في تقديم التضحية، فكانوا مثالا رائعا في ذوبان الذات لأجل الوطن، نقل لي أحدهم، أن هناك رجلا بسيطا من أهلنا، هذا الرجل يا أخوتي كان لديه زوجة تعجز الكلمات عن وصف عفتها وشجاعتها. هنا استدرك الشيخ قائلا: أتمنى من أخواتي وأمهاتي العزيزات أن يستمعن لما أقول بكل انتباه، لا بد عليكنَّ من أن تستوعبن قدر المسؤولية الملقاة على عاتق أي واحدة منكنَّ، فنحن مهما علا شأننا ومهما كنا فأجرنا نقتسمه مع الصبر والتجلد الذي يصدر منكن، ثم عاد ليكمل حديثه، كنت متشوقا لسماع قصة هذا الرجل الذي يتكلم عنه الشيخ أمام ملايين الناس التي تستمع إليه في هذه اللحظة، إذ قال: هذا الرجل يا أخوتي كان من عامة الناس، كان فقير الحال بشدة، وفوق فقره هذا فقد ابتلاه الله باختبار صعب، وهو إن أبنائه الثلاثة الذين تركهم عند أمهم كانوا جميعا يعانون من مرض، يستصعب عليه علاجهم على حسابه الخاص، صاحبنا لم يكن لديه ما يؤمن به قوت عائلته إلا بصعوبة بالغة، الفقر هو من يخلق لدى الرجال عجزا كبيرا، لكنه لم يكن يتعكز على هذه الأعذار، بل إنه بعد سماعه لفتوى الدفاع المقدس قرَّرَ ومن دون تردد أن يلتحق بصفوف المقاتلين كي يدافع عن وطنه.
هنا كنت في حيرة كبيرة وأنا استمع لكلمات الشيخ، كيف يمتلك الشخص كل هذه المقدرة من العزم وهو في أمس الحاجة لأقل قدر من الرعاية؟ ما السر وراء كل تلك التضحيات وهي تسطر عجائب كبيرة في سبيل الوطن الذي تنام فقراؤه بلا غذاء ولا دواء، لكنها التضحية مهما كان الثمن، فالوطن من وجهة نظر هؤلاء الناس يختلف مفهومه عن الكثيرين ممن يعتاش على لحظاته المرتبكة.
عدت للاستماع لما يقوله الشيخ، رأيت كأن عينيه تلتمعان بالدموع وهو يكمل حادثة هذا الرجل، إذ واصل حديثه ليقول: لقد كان هذا الرجل مؤمنا متدينا، وكان معتمد المسجد الصغير في منطقته، تعوَّد سكان حيه على صوته الجميل وهو يرتل القرآن أو يقرأ الأدعية والأذكار. تحيَّر صاحبنا بشدة بين أن يترك عائلته وزوجته المثقلة بهموم أطفالها المرضى، أو الذهاب الى القتال والاستجابة لنداء الحق، تدابر أمره مع جارٍ له وطلب رأيه في الموضوع، فأكد جاره على استعداده الكامل للاعتناء بعائلة جاره طالما هو غائب في الجبهة، فرح كثيرا وهو يستمع لجاره، ولكن كان عليه إقناع زوجته، وكيف ستتقبل الأمر، وهي التي تعاني بشدة بسبب الخوف الملازم لها من ضيق حال زوجها، فكيف إذا تركها وذهب للقتال، لا تعرف ما الذي سيحصل، كان الرجل يفكر بعقل زوجته، ويدعو من الله أن يلهمها الصبر وأن توافقه بما عزم عليه، توسط أسرته، وفاتح زوجته بما عزم عليه، وإذا به يتفاجأ بردَّة فعلها، وهي تقول له: لا بأس على الأولاد أبدا، اذهب راشدا علَّني أقاسمك أجر ما عزمت عليه، وإذا ما كان للبشر أن ينسانا فلا خوف علينا فالله يشملنا وإياك برحمته التي لا حدود لها، خلقنا نحن الأمهات للرعاية وعدم الشكوى وهذا واجبنا، أما الحماية فهي مهمتكم أنتم الرجال.
لم أستطع السيطرة على دموعي وأنا استمع لتلك الحوارية بين الرجل وزوجته، التي ينقلها الشيخ في تلك اللحظات، صمت مطبق ساد الصحن الحسيني كله وهو ينتظر انتهاء تلك القصة من فم الشيخ، الذي واصل قائلا: الرجل في تلك اللحظة وبعد سماع جواب هذه المرأة الطاهرة، طار فرحا، لم يصدق ردّة فعلها، احتضن أبناءه بشدة، أخذ يبكي بحرقة، زوجته اقتربت منه، خاطبته قائلة: لا عليك، فقط وأنت في ساحة الجهاد ادعُ لنا الله عسى أن يشمل أبناءنا برحمته، ويبعث لهم الشفاء من عنده، تذكر أن تتوسل لله بذكر سيد الشهداء وتضحياته.
بعدها غادر الرجل بيته ليلتحق بصفوف الحشد الشعبي، تاركا وراءه تركة ثقيلة على تلك الزوجة الصابرة، وبعد جولات من المعارك وأيام في الجهاد، قضى الرجل نحبه ونال وسام الشرف والخلود في سبيل وطنه. انتهى الشيخ من خطبته، لم استطع أن اقطع تفكيري بشأن تلك العائلة، كيف سيكون جزاء تضحيتهم تلك؟ ومن سيلتفت للزوجة وأطفالها وقد رحل معينهم الوحيد؟ التضحية التي يقدمها هؤلاء الرجال لا ثمن لها، ولكن لا ثمن يضاهي صبر النساء وحزنهن أيضا.