تكريت (محطة النصر الحاسم)

{ المصدر : الموسوعة التوثيقية الكبرى لفتوى الدفاع عن عراق المقدسات }

القطعات العسكرية تمرُّ بسرعة في مناطق محافظة (صلاح الدين)، إذ كان تحرير تلك المناطق يسير أسرع مما خطط له، من جهات المحافظة الأربع كانت قطعات المقاتلين المختلفة تتوجه نحو مركز المحافظة إذ تقع مدينة (تكريت). لهذه المدينة طابع خاص عند العراقيين جميعا، إذهي مسقط رأس النظام الدكتاتوري السابق، وكانت تحافظ على ولائها لذلك النظام حتى بعد سقوطه في عام (2003م)، كانت الأخبار تتضارب من هناك بحدوث تحالف بين (الدواعش وبقايا عناصر البعث السابق)، وهو ما زاد الأمر تعقيدا على القوات المسلحة، لذلك بقيت تكريت حتى وقت متأخر عصية على الاقتحام والتحرير، كانت الأمور تزداد تعقيدا في تلك المدينة بين تحركات العدو وكثرة عيونه المتجسسة والتي ترقب أي تحرك من قبل الحشد الشعبي أو القطعات الأمنية أولا بأول.

كنت هناك مع لجنة (الإرشاد والتعبئة) وكنا نرابط مع قطعات الحشد الشعبي التي ترافق القوات الأمنية، وفي اجتماع طارئ بين قيادات القوات المشتركة، كانت الآراء متضاربة جدا، فمن جانب كانت خطة الهجوم في البداية تقتضي بتقدم قوات الشرطة الاتحادية ترافقها قطعات الحشد الشعبي من إحدى محاور المدينة، في حين تتقدم قوات جهاز مكافحة الإرهاب من محور آخر. حينها ابتدأ الهجوم، وتقدمت قواتنا نحو المدينة، كانت الاشتباكات على أشدها في أطراف مدينة (تكريت)، ونحن ما زلنا نتقدم بطيئا إلى داخل المدينة، حتى فوجئنا بصدور أمر من القيادات العليا يقتضي انسحاب كافة القوات من جميع المحاور وعودتها إلى أماكنها قبل الهجوم، حينها منيت القوات المهاجمة بصدمة كبيرة، إذ نزل ذلك الخبر كالصاعقة على رؤوس الرجال حتى ثبطت عزيمتهم، الأكثر غرابة من هذا إن الأمر تكرر أكثر من مرة، فإذا ما تقدمت قواتنا وهاجمت تحصينات العدو كانت الأوامر تأتي مسرعة بوجوب الانسحاب والعودة إلى المناطق السابقة على تخوم (تكريت)، حاولنا فهم الأمر وتقبله، لكن الأعذار كانت غير حقيقية من قبيل أن المدينة ملغمة بأكملها، وإن قطعات العدو تفوق إمكاناتنا على الصمود، وهو ما يؤدي (من وجهة نظر القيادات العليا) إلى خسائر كبيرة في صفوف المقاتلين..!

علمنا بعدها إن هناك إرادات خفية تقف وراء تعطيل ساعة الصفر والهجوم على (تكريت)، ففي المدينة عدد لا يحصى من قيادات (حزب البعث)، والذين كانوا ما يزالون محافظين على علاقتهم مع بعض الدول، فكانت تلك القوى تدفع بتأجيل الموضوع حتى يطمئنوا على سلامتهم، وهو ما يوفر لهم فرصة الهروب من المدينة قبل سيطرة القوات الأمنية عليها. حينها كادت الفتنة أن تقع بين قطعات القوات المشتركة نفسها، فآثرت بعض قطعات الحشد الشعبي الانسحاب من (تكريت) نتيجة التخبطات الحاصلة فيما يخص الأوامر العسكرية، لم يتبق هناك من الحشد الشعبي سوى لواء (علي الأكبر)، الذي كنا برفقته، وحينما التقينا مع قيادات عسكرية وسألناهم عن سبب تأخير إعلان ساعة الهجوم؟ كان جوابهم كالسابق: لا نريد أن نزج جنودنا بمعركة خاسرة، الوضع متأزم جدا لا كما تتوقعون، فالمدينة عبارة عن تنين نائم إن تم إيقاظه التهمنا جميعا..!

كنت أتنقل مع وفد (التعبئة والإرشاد) نحاول أن نتوصل إلى حلول مقنعة تخص معضلة تأخير الهجوم، هذه المشكلة التي أخذت تؤرق جميع المقاتلين، فبعد لقائنا مع قيادات جهاز مكافحة الإرهاب توجهنا نحو قطعات الحشد الشعبي المتبقية هناك والتي ترابط مع قوات الشرطة الاتحادية، ولما استفسرنا منهم، كان جوابهم مماثلاً لما أخبرتنا به قيادات جهاز المكافحة أيضا.

لما رأيت أن الموقف تأزم تماما، طلبت الإذن من قادة الحشد الشعبي هناك أن يسمحوا لي بأن أكلِّم المقاتلين، فسمحوا لي، حينها صعدت على ظهر دبابة وناديت على الجميع بأعلى صوتي، أنا أقف بينهم الآن بعمامتي السوداء، أرتدي بذلة عسكرية، وأقبض على سلاحي بيد، وبيدي الأخرى ألوح بعلم العراق، كان الوقت عصرا، وما زال لمغيب الشمس أمد بيننا، وحينما تجمع المقاتلون حولي، رحت أصرخ بينهم وأشد من عزمهم، وأستعين بهممهم، وقلت لهم:

- لم يتبق أمامنا الكثير، وهذه المدينة هي آخر شوكة علينا أن نكسرها كي نفك الأسر عن بقية المناطق، لا تزعزعكم أصوات الأخبار، والأنباء التي تحاول تثبيط عزيمتكم، أنا متوجه الآن نحو العدو بما أملك من عدة وسلاح، هااا.. أخوتي، من يأتي منكم معي؟.

رأيت المقاتلين يشيرون بأسلحتهم عاليا، لمحت في أعينهم  رغبة للاقتحام، وفرحة بكلماتي التي ألقيتها عليهم، أجابوني: نحن معك سيدنا، كلنا معك إلى التحرير إن شاء الله، حينها نزلت من على ظهر الدبابة وركضت مهرولا إلى جهة الساتر الأمامي للعدو، لحقني ما يقرب السبعين مقاتلا، كنا راجلين جميعنا، لم تكن في ايدينا سوى أسلحتنا المتوسطة والخفيفة، قد يحسب ذلك انتحارا، ولكن ما الجدوى ونحن نشاهد تقاعس الأوامر العسكرية عن الهجوم، والوقت ينفذ بين أيدينا، تقدمنا نحو مناطق العدو، وانقسمنا على مجاميع عديدة مهاجمة وساندة من الخلف، كان هجومنا خاطفا ومباغتا جدا للعدو، بحيث إنه لم يستوعب ذلك الأمر، صمت الجميع وأُطلق العنان للأسلحة كي تتحدث، حدث الاشتباك قريبا من مناطق العدو، انهمر الرصاص على الجانبين، كنا نتحصن خلف تلال مهجورة، رأيت المقاتلين الذين بجانبي كانت أعمارهم متفاوتة، لكن همتهم موحدة ومتجهة نحو النصر مباشرة، وبينما نحن في غمرة الاشتباك إذ أصابت إطلاقة مقاتلاً كان بجانبي، فحاولت إسناده على كتفي، سحبته إلى الخلف قليلا، كنت أصرخ فيه لكي يصمد، عانينا في حينها من القناصة المتمركزين على الجانب الأخر، كانت إطلاقاتهم تصيب بدقة، كنت أحتمي خلف صخرة كبيرة، أخرج منها لأرمي ثم أعود للاحتماء، وإذا بي أشعر أن هناك قناصا يترصدني كلما مددت رأسي، كان يصوب نحو عمامتي لأنها الجزء الوحيد الظاهر مني، فأشرت إلى بعض المقاتلين الذين كانوا لا يبعدون عني كثيرا عني، وبينت لهم مصدر النيران، فكانت معالجتهم دقيقة لهذا القناص وذلك بأن أطلقوا عليه صاروخ قاذفة أنهى كل شيء.

ومع حلول الليل ازدادت المعركة ضراوة، كنت أشاهد المقاتلين يهرولون نحونا، وهم بازدياد هائل، حتى وصل العدد أكثر مما ظننت سابقا، تحول ذلك الليل إلى نهار دامي بفعل كمية النار التي وجهناها نحو مخابئ العدو، ارتفعت معنوياتنا كثيرا وبتنا قادرين على الصمود أكثر من ذي قبل، كانت تلك اللحظات من أهم أوقات معارك التحرير على مستوى العراق بشهادة الجميع، إذ كما حدثنا بعض الأخوة في الحشد الشعبي لاحقا بأنهم كانوا يتنصتون على العدو، فسمعوا أجهزة نداءاتهم تضج بالبكاء والثبور، وكانوا يقولون لبعضهم: إن قطعات الحشد الشعبي في هجوم متواصل علينا، إنهم بالآلاف.. نعم بالآلاف، نطلب الدعم حالا، أسعفونا في الحال. كانت تلك نداءات صرخاتهم تستغيث من شدة هجومنا في تلك الليلة.

أحكمنا السيطرة على الساتر الأمامي، وأخذ كل منا موقعه في تلك الليلة التي ما توقعناها تنتهي بعد تلك الاشتباكات المميتة مع العدو، لم تخالجنا لذة النوم ولا ثانية، كانت العيون مفتحة جيدا لرصد أي تحركات محتملة من قبل العدو، بدأ الشباب بإسعاف زملائهم الجرحى ونقلهم إلى للمستشفيات المتحركة في الخلفية، جهزنا أنفسنا جيدا، كانت سهرتنا جماعية إلى الصباح.

مع انطلاق خيوط الفجر الأولى، تنبهنا إلى تقدم قطعات الحشد الشعبي خلفنا، تقدموا إلى حيث صاروا بجانبنا تماما، ارتفعت معنوياتنا كثيرا، كان إسنادا منقذا لموقفنا حينها، بعدها صارت القيادات العليا المسؤولة عن القطعات العسكرية بموقف حرج، إن تركتنا لوحدنا فلا نعلم ما الذي يحدث بعدها ولاسيما وأن العدو سيتهيأ لهجوم أعنف كي يسترد ما فقده في الليلة السابقة، وإن تقدمت القوات العسكرية حينها ستكون بحرج أمام قوى لا تريد دخولنا لمدينة (تكريت)، لكن الأمر حسم عند القادة، فوجهوا بدخول قوات جهاز مكافحة الإرهاب والشرطة الاتحادية، صدرت الأوامر بوجوب القيام بهجوم كاسح وخاطف حتى تتحرر المدينة من الدواعش نهائيا.

تطايرت ألسنة اللهب من المدافع والدبابات وهي تطلق قذائفها صوب تحصينات العدو، وكانت هذه الألسن مدربة وموجهة جيدا كي تتذوق مخابئ الدواعش بدقة عالية، انطلقت عملية تحرير تكريت من أكثر من محور، كلها وبآن واحد تتوجه نحو الهدف نفسه وهو مركز المدينة للسيطرة عليه، كانت كمية النيران التي تطلق من الجانبين كأنها غيوم مجنونة تلتقي مع بعضها لتهدر وتبرق فيتحول معها ليل المدينة إلى نهار واقح بين، كانت المدينة مسورة جيدا ولكن ليس بأسلاك شائكة وإنما بأنواع عديدة من العبوات الناسفة والألغام المنتشرة على طول الطرق الرئيسة والفرعية على السواء، لكن مدرعاتنا ودباباتنا كانت تقتحم على الرغم من ذلك كاشفة بذلك عن طريق سالك لقوات المشاة التي تتقدم خلفها. المعركة الآن انتقلت من الأطراف الخارجية للمدينة لتكون بداخلها تماما، بين الأزقة الضيقة والشوارع الفرعية، كل تلك الأماكن كانت ساحة للاشتباك، العدو يحاول الحفاظ على مناطقه وقواتنا تحاول انتزاع تلك المناطق منه، قوتان متضاربتان تشتبكان هناك، لا مفر من القتال، تعالت الأصوات المحفزة من قبلنا، زادت عزيمة الرجال، صار التقدم أسرع، العدو يفقد مواقعه بسرعة مفاجئة، الأخبار تأتي مسرعة عن هروب معظم قادته، وتسليم عناصرهم الصغار كي يواجهوا مصيرهم لوحدهم، مركز المدينة على مرمى حجر، حينها شعرت أن هناك قوة تدفع بنا من الوراء كي نتقدم أكثر، لم نكن نستشعر التعب مطلقا، لذلك كانت العيون تتوجه نحو مركز المدينة وإسقاط علم الدواعش المزعوم، حينها ركضنا بقوة كبيرة، كنا نتسابق مع الآليات بالوصول، حدة النار خفت من جانب العدو، وما زلنا نتقدم.

بعد ساعات عديدة من القتال، لاحت أمامنا بوابة المدينة الداخلية، تقدمنا بشكل منتظم، الفرحة مختبئة بعض الشيء إلى أن يتم النصر، وصلنا إلى مركز المدينة أخيرا، كان هناك مكان أشبه بدوار يقع على تقاطع طرق رئيسة، كانت تحوطه أعلام داعش من كل مكان، هرول الشباب مسرعين لاقتلاعها ورفع علم العراق مكانها، كانت هناك بعض الجيوب من العدو والتي ما زالت تقاوم القوات العسكرية، تمت تصفية كل شيء، وخرجت دوريات متكررة لاستطلاع الأمور ومحاولة تمشيط الأزقة والمناطق الجانبية في المدينة، كان كل شيء يسير وفق الخطة المتهيئة له، لذلك كنا على حذر تام من أي تعرض جانبي من الدواعش، أو من إرسالهم للسيارات المفخخة وهي خطتهم التي يكررونها دائما، تبين أن أغلب عناصر العدو قد قضى في تلك المعركة، وإن ما تبقى تسلل هاربا باتجاه مدينتي (العلم) أو (بيجي)، إذ الأمور أكثر هدوءً بتكريت في الوقت الحاضر.

عند منتصف النهار تجمعت القوات العسكرية بمختلف صنوفها في مركز مدينة (تكريت)، انتشرت بعض القوات في مفاصل المدينة كلها لمسك زمام الأمور ومنع ظهور الدواعش مجددا في تلك المناطق، كان لقاء القطعات العسكرية بالقرب من المشفى المركزي الذي يقع في منتصف مدينة (تكريت) تماما، حينما تمت عملية الاقتحام والتحرير، وبعد التأكد من خلو المدينة من الإرهابيين، تمَّ أخيرا إعلان النصر في مدينة (تكريت)، لكن هذا الأمر لم يخلو من عقوبة وجهت لأفراد لواء (علي الأكبر) الذين انطلقوا أول مرة نحو المدينة، وذلك لعدم انصياعهم لأوامر القادة العسكريين هناك، لكن ذلك لم يكن مهما تماما، فالأهم هو التخلص من أهم معاقل العدو و أخطرها ألا وهي مدينة (تكريت).