صغير الحشد المجاهد
كان المرض يحاصره منذ نعومة اظفاره، (عادل هاني النداوي)، أعرفه جيدا، هو أصغر شخص في هذا القاطع، الحرب الواجبة التي قادته إلى هنا برفقة أعمامه، وهو لم يتجاوز سن (13) من عمره، الصبي الذي لم تعينه كليتاه في مقاومة الظروف القاسية، شخَّص الأطباء مرضه على أنه (التناظر الكلوي)، كان يعاني من نوبات توقف الكليتين، اضطراب عام يصيب جهازه البولي لديه، مما يجعله يعاني من احتقان وألم شديدين، نصحه أعمامه بضرورة البقاء في المنزل؛ لأن صحته لا تسعفه، ولأنه صغير على الحرب ومصاعبها، مع ذلك كان يصرُّ دائما على الذهاب معهم والالتحاق بالمقاتلين.
استعصى العلاج على (عادل)، أسرته أصابها اليأس من أي أمل بشفاء ولدهم، كانوا يراعون حالته النفسية التي بدأت تتأزم نتيجة تألمه المستمر من العلاجات غير المجدية، لذلك فقد قرروا في نهاية المطاف أن يرسلوه مع أعمامه ليلتحق بالحشد الشعبي، القلق من أن يؤخرهم عن واجباتهم هو ما كان يسيطر على أعمامه في تلك اللحظات، ولكن ما العمل، هم يشاهدون إلحاح ولدهم (عادل) المستمر على الذهاب إلى الجبهة، توسّلات صبيهم المريض قد أتت أكلها معهم، اتفقوا فيما بينهم على أن يبقى أحدهم في كل مرة كي يرافق الصبي العليل؛ فيما سيغطّي الباقون واجبات من يبقى معه =.
عند وصولهم إلى مقر لواء «علي الأكبر» كان (عادل) يفكِّر مع نفسه، استحضر صورة ذلك الشاب الهمام الذي دافع عن والده ببسالة لا نظير لها، شاهد لافتة المقر وهي مكتوبة بخط جميل (لواء علي الأكبر «عليه السلام»)، في هذه اللحظات أخذته نوبة من البكاء: «إلهي بحق عليٍّ الأكبر عندك وتضحيته العالية، ألا شفيتني من وجعي وألمي، إلهي لا تخجلني أمام هؤلاء الرجال، تحمَّلت صغر سني بينهم، لكني لا أتحمل نظرة عطفهم علي بسبب مرضي». راح يبكي بحرقة كبيرة، أعمامه يشاهدون ما صارت إليه حالته في هذه اللحظات، رفعوا أياديهم معه نحو السماء، كل واحد منهم كان يتمتم بدعاء يحفظه، امتلأت أياديهم بدموعهم الغزيرة، كل كان يستذكر موقفا من مواقف الطف الخالدة، ويبكي ويدعو في سرِّه عسى الله أن يدفع البلاء عن هذا عادل وعن العراق جميعا.
استقرَّ الجميع في مواقعهم، غطَّ (عادل) في نوم عميق لم يشعر به من قبل ولم يذق حلاوته، لا يعرف السبب، ربما لأنّ الطريق كان مرهقا، وأنساه الإرهاق آلامه التي كانت تمزقه على الدوام فأسلمه إلى النوم، أو أن ثمة أمر آخر قد حدث له، أعمامه توزعوا كل إلى واجبه، بقي مع (عادل) عمُّه الأصغر، كان يشاهده وهو ينام بوداعة.
في الصباح جلس العمُّ مرعوبا وهو يبحث عن ابن أخيه كان يلتفت بالغرفة، لا يجد أحدا، حاول السيطرة على نفسه، ما الذي حدث مع (عادل) هل تعارض في الليلة السابقة ولم يشعر هو بذلك، ما الذي سأقوله لأخوتي وعائلتي، أين ذهب الصبي يا إلهي؟ صار يصرخ بأقوى ما لديه: «عادل.. عادل.. بني عادل أين ذهبت يا صغيري؟» استند العمُّ على الحائط، أغمض عينيه وراح يفكِّر بأسئلة كثيرة بخصوص ابن أخيه، لم يستطع الوقوف على قدميه ليخرج من الغرفة ويعرف ما الذي حدث للصبي. بينما هو كذلك وإذا بباب الغرفة يفتح، صوت مألوف وظل لفتى رشيق يقدم نحوه، يهزه من كتفيه: «عمَّاه استيقظ ما الذي لك؟ كنت في دورة المياه»، كان الوجه هو وجه (عادل)، لكن ما الذي أصابه ليتغير هكذا، وما هذه الابتسامة الكبيرة التي ترتسم عليه، تحرَّك العم فاعتدل في جلسته، كان يظن أنه في حلم طويل، حاول أن يتلمس نفسه، بصوت خفيف خاطب عادل قائلا:
- ما الذي حدث لك، وأين كنت؟
- لم يحدث لي شيء يا عم، لقد كنت في دورة المياه، هل تصدِّق أني لم أتألم كما في السابق، لقد قضيت حاجتي بسرعة دون تعسّر، الألم لم يعد موجودا أجلس معي يا عم أرجوك أنظر لي وأنا أتقافز أمامك، لم أعد بحاجة للعلاج.
كان الفتى يقفز أمام عمِّه بفرح غامر، يتخيل نفسه حاملا للسلاح وهو يواجه الدواعش بكل ما فيه من همَّة وشجاعة، التفت العم إليه:
- ما الذي حدث يا (عادل) أخبرني أرجوك؟
- لقد حلمت البارحة، كأن فارسا شابا قدِم نحوي، طلب مني الوقوف، قلت له: لا أستطيع، ألح علي أن أقف، فوقفت يا عم وإذا بي أقع على وجهي، كنت متعسرا جدا، خجلت من نور وجهه وأطرقت رأسي، تقدَّم نحوي، وضع يده على رأسي، قرأ شيئا لم أسمعه، بعدها قال لي: الآن تستطيع الوقوف، ما إن رفع يده من رأسي، وإذا بي أتقيَّأ شيئا أصفر، ما زلت أشعر بمرارة طعمه في فمي إلى الآن، صحوت من منامي فزعا، هرولت نحو دورة المياه، وإذا بي سليم معافى كأن لم يصبني شيء.
احتضن العم ابن أخيه وراح يبكي، حمله على ظهره وخرج به نحو ساحة المقر الرئيسة، نادى على الجميع، فتجمعوا حوله، طلب من ابن أخيه أن يحمل السلاح، وأن يلوح به أمام أنظارهم، راح الجميع بأهازيجهم يدبكون على الأرض، كان (عادل) معهم يلوِّح بسلاحه، وهو فرِحٌ بكرامة شفائه من مرضه.