العطر
خبرة طويلة في تمييز العطور ومعرفتها هي كلُّ ما تشكَّل لي سابق حياتي، استهوتني فكرة العطور مذ كنت صبيا، أنا الآن أعتمر العمامة، وأواظب على دروسي الحوزوية بشكلٍ متواصل، لكن تبقى هواية العطور ملتصقة بذاكرتي، لا أريد أن أفارقها، لذلك في كل مرَّةٍ تراني أجلب عطرا مختلفا، صرت عارفا بأنواعها جميعا، الطبيعي منها والاصطناعي، زهورها التي تتشكل منها، خلطاتها السريِّة التي تبعث راحة في نفس من يشمُّها، ليس ذلك فقط، بل صرت عارفا بعطور بني البشر أيضا، لكلٍ منَّا عطره المميز الذي يستهويه، فيكون علامة دالة عليه، لم أشمَّ عطرا في حياتي كما شممته في ذلك اليوم الذي ذهبنا فيه للبحث عن مثنى، صديقنا ورفيق دربنا الذي استشهد في إحدى المعارك.
المشاكل تتزايد وبصورة متواصلة بين والد مثنى من جهة وأمه من جهة أخرى، الوالد يلحُّ على زوجته ان يترك مثنى فكرة التطوع بالحشد الشعبي، لذلك خيَّر زوجته إما أن تضغط على ولدها فيترك ما برأسه أو أن تذهب إلى أهلها في الجنوب وهي مطلقة، كان مثنى يشاهد ما يحدث، يتحسّس آلام والدته وهي تذرف الدموع من أجل أن تثنيه من قراره، لكن عزمه أقوى من أن يستمع لأي رأي آخر يمنعه عن الالتحاق بالحشد الشعبي ومقاتلة الدواعش، مثنى الذي يلتهب شبابا وحيوية، قرَّر أن يكلِّم والدته، أن يعتذر لها، ويطلب عفوها فقد جعلها بموقف لا تحسد عليه أبدا، كانت الأم تبكي وهي تلملم أغراضها لكي تعود لبيت أهلها، بينما يخرج مثنى من داره متجها نحو معسكر التدريب الذي سيلتحق منه نحو الجبهة إلى جانب إخوانه من الشباب المتطوعين بالحشد الشعبي.
كنت أشاهد مثنى تغمره السعادة في صحبتنا، كان خدوماً، ذكيا لا يستعصي عليه شيء مطلقا، لقد استثمر ذكاءه في الجهد الهندسي، إذ دخل دورات مكثَّفة لتفكيك العبوات الناسفة، كنت أراه مثل نحلة نشيطة لا تكلّ ولا تملّ من العمل، لقد فهمت الوضع العائلي الخاص بمثنى، تفهَّمت وجعه الذي كان يحاول نسيانه بكثرة العمل وعدم التوقف للراحة ولو قليلا كي لا يصيبه وجع التفكير بوالدته التي طُلِّقت قبل مدة وجيزة وكان هو السبب في ذلك، أوصيت الجميع بالاهتمام بمثنى، لا أريد من أحدٍ أن يزعجه، دعوه يقوم بما يراه مناسبا، لا تقطعوا صلتكم عنه، ولكن لا تجرحوه بأسئلة تهيج آلامه.
بدأ مثنى يزاول عمله بتفكيك العبوات الناسفة التي كانت تنتشر في طرقات ومنازل المناطق التي كنا نود تحريرها، وبعد كل جولة من العمل يعود متعبا فينام بسرعة، يشعر بلذَّة التعب، ولذة النوم فنراه يبتسم فيما يغطّ في نومه، لا يزعجه شيء بل كانت أحلامه تضحكه، لمثنى عطر خاص به، عطر ولد لا بدَّمن أن يخوض تجربة مغايرة كي يكون رجلا بعين نفسه أولا، عطر يبعث على الثقة دائما، كنت كلما سلَّمت عليه شعرت بعطره، مثنى الذي لم يستسلم للضغوطات مطلقا.
في ليلة ما من ليالي الحرب على زمرة الظلام، كنت نائما في الغرفة نفسها التي ينام فيها مثنى إلى جانب عددٍ كبير من أصحابنا، لا بأس فقد كنا نتزاحم فيما بيننا لنجد مكانا نريح فيه أجسادنا ولو بضع دقائق قبل النهوض نحو واجباتنا المختلفة، مثنى كان ينام هادئا، أتذكر قبل أن ينام كان يقول لي: «شيخنا أتمنى أن تدعو لي دائما، أثق بقربك من الله»، وبعدها استلقى على فراشه، كنت ساهرا في تلك الليلة، أفكر بالقادم من الأمور، وإذا بصوت شهقة كبيرة، وجسد مثنى يقفز نحو الأعلى، صيحته أفاقت الجميع، أول ما وقعت عيني عليه، كان خائفا ومرتعبا، العرق يتصبب من جبهته، وجهه شاحب من شدَّة الاصفرار، وعيناه بان عليهما جحوظٌ مخيف:
- ما بك يا مثنى، هوِّن عليك يا رجل، استعذ بالله لابد من أنه كابوس، استغفر ربك يا صديقي وعد للنوم.
- شيخنا، لم يكن كابوسا بل حلما جميلا، رأيت مولاي علي بن أبي طالب (عليه السلام)، يناديني باسمي قائلا: مثنى عليك أن تغتسل، وتستبدل ملابسك، وكن محافظا على صلاتك، فقلت له: سيدي ومولاي: لا أعرف الاغتسال ما هو؟ حينها أخذني من يدي وغسَّلني وألبسني حلة جديدة، وطبطب على كتفي وذهب. شيخنا ما هو تفسيرك لمنامي هذا، أخبرني أرجوك؟
- قم وجدد وضوئك يا مثنى، وعليك الاعتناء بصلاتك، وفي الغد الباكر اغتسل.
خرج مثنى مباشرة لتجديد وضوئه، حينها انتهزت فرصة خروجه ووجهت كلامي لمن كان معي في الغرفة، قلت لهم أن هذا الشاب سيستشهد عاجلا أو آجلا، وعليكم أن تحافظوا عليه جيدا، لا تجعلوه يشارك بأية معركة قادمة، لا بدَّ من أن يبقى في المقر دائما، هذا ما استوحيته من منامه الذي حكاه لنا، كلماتي لم تأخذ مسارها الصحيح على أسماعهم، البعض استغرب الأمر، وآخرون أكملوا نومهم، وبقيت أنا أفكِّر بشأن هذا الشاب ورؤيته المحيّرة.
عند الصباح تكلمت مع مثنى، قلت له أن يذهب لرؤية والدته، لكنه رفض الأمر فإجازته لم تحن إلى الآن، حينها كنا نتهيَّأ لمعركة تحرير جديدة، مثنى كان يتجهَّز معنا، لكنني منعته بقوة، وطالبته بالبقاء في المقر، تحركت قواتنا إلى المعركة، كانت الاشتباكات شرسة جدا، كان الرصاص ينهمر مثل المطر، بعدها تهيَّأت لنا الأمور وانتصرنا انتصارا ساحقا، كنا فرحين جدا بما حققناه، حينها لم يغب مثنى عن تفكيري، حاولت أن أستعلم عنه، سألت رفاقه عنه، لم يجبني أحد، استغربت الأمر حقا، تصاعد خوفي على مصير مثنى، رحت أبحث عنه في كل مكان دون جدوى، انفعلت كثيرا رميت سلاحي جانبا ورحت أبكي بصوت عالٍ، حاول الجميع تهدئتي، ولكن نوبتي تواصلت، قلت لهم: «لقد كان مثنى أمانة عندكم، ولم تحافظوا على هذه الأمانة..!»
كان الجميع يبكي بشكل هستيري، قرَّرنا أن ننتفض مباشرةً، بحثنا عن مثنى في كل مكان، بعضهم ركب السيارات، بينما هممنا راجلين نبحث عنه في طريق العودة للمعركة، تيقنت أن مثنى كان يرافق جماعة الجهد الهندسي، لقد انفلت من بين أيدينا بلحظة معينة دون أن نعلم، قادنا الطريق نحو طريق فرعي كان مليئا بالعبوات الناسفة، سرت خلف زملائي المجاهدين بهذا الطريق المليء بالأشجار والأحراش، حينها شممت عطرا غريبا، حاولت أن أتنبه إليه، قلت في نفسي لا بدَّ من أنه محض وهم هذا الذي يخوض في مخيلتي فيجعلني أتخيل أني أشمُّ عطرا غريبا، وكلما أواصل الخطى يغمرني ذلك العطر، نبهت من يرافقونني إلى هذا الأمر، قلت لهم: «هل تشمُّون هذا العطر الزكي مثلي؟» أجابوا : «نعم».
كنامذهولين نتتبع مصدر ذلك العطر، كانت الخطى وئيدة وهاجس مخيف قد استحوذ عليّ أن العطر آت من مثنى، سرنا باتجاه مصدر العطر وإذا بنا نفاجأ بنصف جثة مقذوفة لمسافة بعيدة، كان الجزء الأسفل من مثنى بالفعل، حينها هرولنا إليه بسرعة، بعدها تقدَّمنا ثانية وإذا بنا نجد نصفه العلوي، كان عطره يسحبنا نحوه بشدَّة، لملمنا أجزاءه المتناثرة، كان وجهه الملتصق بجزئه العلوي متبسٍّما كعادته، الدموع سبقتنا لأي ردَّة فعل، وعطره كان سخيا يدعونا أن نبكي دون توقف في تلك اللحظة القاسية.