الحبش
الساعات الأولى التي تلت دخول الدواعش للعراق واحتلالهم لأجزاءٍ كبيرة شهدت تحولات كبيرة على مستوى البنية الاجتماعية التي توحدت في سبيل درء هذا الخطر بعدما كان الناس يخوضون غمار صراعاتهم الأيديولوجية والسياسية كذلك، النظر للخطر القادم أزاح الغبار عن الأعين المشتتة، ونبههم لضرورة الوقوف بوجه هذه الغيمة الظلامية القادمة من خارج الحدود.
الحبش كان يراقب كل تلك المتغيرات، جلس إلى نفسه في محل الحدادة الذي أجبر على العمل فيه، كان يفكِّر بكل أيامه السابقة، يتأمل كره الناس له وبغضهم بسبب أعماله وسلوكياته الطائشة سابقا، يفكِّر بأسرته التي أتعبها ضنك العيش وهم ينامون في غرفة صغيرة مبنية من مخلفات الحديد التي كانت ترمى في الشوارع، ينظر إلى نفسه وهو يشاهد القنوات الإعلامية تنقل بالمباشر ما يحدث للأطفال والنساء والشباب والعجزة، الجميع يساق إلى مقصلة الوحش كي يمتص دمائهم ويستبيح حرماتهم، كانت عضلات الحبش ترتجف من شدَّة الغضب، حدَّث نفسه: «آآخ لو أنني أمسك بهؤلاء الدواعش لأذقتهم الجحيم الذي توعدهم به الله».
تنبه الحبش إلى صاحب المحل وهو قادم إليه بسرعة، وقف يستفسر منه عما يجري، لماذا كل هذه الناس تتصايح في الشارع: «ألم تسمع بما يجري، لقد صدرت الفتوى المقدسة بوجوب قتال الدواعش، لا بدَّ من أن نتهيأ جميعا لتقديم العون».
حينها انتفض الحبش من مكانه، أخبر صاحب المحل بأنه لم يعد يشتغل معه، لأنه سيلتحق بصفوف المتطوعين، وخرج من المحل مسرعا إلى بيته، كان صاحب المحل ينظر باستغراب لما قاله الحبش، كيف تغيَّر بهذا الشكل؟ هل هو هذا الحبش الذي كنا نستغيث منه، مالهُ ومال التطوع؟ ومن أين جاءه الإيمان كي يذهب مسرعا وبهذه الرغبة العارمة؟ صديقي وأنا نعرفه لا علاقة له مع الله لا من قريب ولا من بعيد، ولكن سبحان مغير الحال والأحوال إلى أفضل حال..!
وصل الحبش إلى بيت أسرته، قبل جبهة والده، وأخبر أهله أنه سيلتحق بصفوف الحشد المقدس منذ هذه اللحظة. في إحدى مقرات التدريب التي كانت معدَّة للمتطوعين لمح الجميع التغيير الجذري الذي أصاب الحبش، كان يصلي في الوقت المحدد، ويستغفر دائما، لم يكن يزعج أحداً، بل بخلاف ذلك أصبح مأوى للجميع يتحدثون معه وقت فراغهم، في إحدى المرات كان الحبش يتدرب على طريقة تفكيك السلاح وتركيبه بسرعة، وكانت الفقرة تتعلق ببدن البندقية وبيتها حينها تنبه إلى أسرته التي ما زالت دون مأوى ولا بيت إلى هذا اليوم، ولكنه ابعد هذا التفكير عن دماغه، عاد إلى التدريب وبعزيمة أكبر.
بعد جولات عديدة في القتال، تنقَّل خلالها الحبش بين مناطق عديدة من أرض الوطن، كان من أهمها (جرف النصر) واللطيفية، ثمَّ إلى اليوسفية، هناك حيث سيطر الحبش مع وحدته العسكري على مركز المدينة طردوا من خلالها الدواعش وسطروا بشجاعتهم وبسالتهم ما كان شاهدا لهم في كل مكان، حينها جاءتهم إحداثية تتكلم عن وجود إحدى المدارس التي ما زال يسيطر عليها الدواعش، ويتخذها مقرَّا لتحركاته ضد قطعات الحشد الشعبي، كانت المدرسة تبعد ما يقارب خمسة كيلومترات عن مقر الحشد. طلب قائد فصيلهم أن يسيطروا عليها ويقضوا على ما تبقى من الدواعش، حينها تطوع ثلاثة عشر مقاتلا للذهاب إلى هذه المدرسة كان من بينهم الحبش، بل كان أولهم وأكثرهم حافزَّا واندفاعا للذهاب ليلا، تحركوا بسرعة من ساعتهم، كان الحبش يفكِّر مع نفسه: «أنها أول مرة أذهب فيها لمكان يسمَّى المدرسة، ولكن ليس صباحا كما يفعل التلاميذ، فأنا أتسلل إليها ليلا، وليس للدراسة كما يفعلون، بل لتحريرها من الدواعش».
تنبَّه إلى صوت أحدهم يأمرهم بالتوقف، حينها رجع الحبش إلى وضعه الطبيعي، كانوا قريبين من جدران المدرسة، حينما شاهدوا تحركات الدواعش فوق سطح المدرسة وفي باحتها الأمامية، حينها فتحوا النار من كل جانب على الدواعش، أمطروا غضبهم في تلك اللحظات، ساعة واحدة وتمَّ الأمر، فرغت المدرسة من الدواعش، كل الظن أنهم هربوا، فتصايح الحبش مع أصحابه فرحا بهذا النصر السريع، دخلوا المدرسة بسرعة وتوزعوا على جوانبها المتعددة، صعدوا إلى سطحها، ولكنهم تأخروا في التنبه إلى الفخ الذي دفعهم إليه العدو، كانوا محاصرين في تلك اللحظة، وليسوا مسيطرين، حينها فتحت عليهم النيران من كل جانب، كان العدو يحاصرهم بشدة، حاولوا الانسحاب إلى أقرب مكان غير هذه المدرسة، حينها كان لا بدَّ لهم من التحرك نحو مجمع الدوائر الحكومية الذي يبعد كثيرا ولكنه سيكون أكثر أمانا من البقاء في هذه المدرسة وانتظار الموت الذي يقترب سريعا منهم، كان الممر الذي يؤدي نحو وجهتهم التالية سالكا نوعا ما، ولكن لا بدَّ لهم من إسناد ومشاغلة للعدو وبينما هم يهمُّون بالانسحاب، بادرهم الحبش: «اذهبوا أنتم.. أنا سأشاغلهم من مكاني، ولكن دعوا لي سلاح الـ (BKC)، لكي أتمكن من الصمود أكثر وقت ممكن، بينما أنتم تنسحبون بكل هدوء».
ركض الحبش حاملا سلاحه (BKC)فضلا عن سلاح كلاشنكوف على متنه، إلى على جدار المدرسة، وأطلق العنان لسلاحه، كانت المسافة تضيق عليه كثيرا، ولكنه يناورهم بصورة سريعة ومفاجئة، مما أشعر الدواعش بوجود أكثر من شخص يقاتلهم في هذه اللحظات، تنبَّه إلى ذخيرة سلاحه التي بدأت تنتهي منه، أطلق آخر رشقة ثمَّ رماه جانبا، التقط سلاحه الآخر الكلاشنكوف وبدأ بالرمي، عتاده ينفذ بسرعة والدائرة تضيق عليه، حاول أن يواجه كثافة النيران التي تصوب نحوه بما تبقى لديه من طلقات، رمى آخر خزين تبقى له، ثمَّ اعتلى جدار المدرسة، وأخذ يصرخ عاليا بوجوههم، ثم إنه سقط منه.
حاول أصحابه الوصول إليه ولكن الوضع قد تدهور كليا، عادت الاشتباكات مع العدو ثانية، بعد خمسة أيام تحررت اليوسفية بالكامل، ركض الجميع نحو المدرسة التي بقي فيها الحبش، وجدوه ممددَّا على ظهره، انتهت نفذت منها الذخيرة تماما، وهناك ثلاث رصاصات في صدره، حينها تيقنوا أنه لم يهرب، وقد قاتل حتى النهاية.
حملوا جثته التي بقيت خمسة أيام في ذلك الحرِّ اللَّاهب ولكنها لم تتفسخ، كان جسده حارا كأنه مات قبل لحظات من الآن، كان الرجل الطاعن بالسن يجلس إلى جانب أطفاله في غرفتهم المتآكلة، حينما سمع أصوات السيارات معلنة عن مجيء شهيد من أرض المعركة، قفز الرجل من مكانه، كان يشعر مع نفسه أن له معرفة بهذا الشهيد، خرج إلى الشارع، واجهته الناس بدموعها وصرخاتها، هلهلت نساء المنطقة، نثر الرز وماء الورد على جثمانه، كان الحبش يغفو إغفاءته الأخيرة، بينما يستلقي نعشه على أكتاف أبناء محلته، ليعلنوا عن تشييع لم ير مثله من قبل.